من الصحيح تماما أن شيئاً أفضل من لا شيء، وأن كل الأهداف الكبيرة تبدأ بمنجزات صغيرة، لكن من الصحيح أيضاً، أن الأمر يؤسس لما بعده، وأن قوة البدايات على محدوديتها يمكن أن تستحيل لاحقاً مشروعاً حضارياً، كما أن ضعفها أو اخطاءها قد تصبح فيما بعد نوافذ لمشكلات بنيوية خطيرة.
هذا الفهم جزء من تصور علاقة الانتخابات التشريعية في سوريا مع المستقبل. ذلك أن تقييم ما جرى على أساس النموذج الديمقراطي المثالي سيكون متعسفاً وغير واقعي، لكن مثل هذا النموذج ينبغي أن يظل هو المقياس والمؤشر للمستقبل، وعلى أساس أن كل خطوة إضافية يجب أن تستهدف الوصول إليه وضمن مدة زمنية وسياق وطني واضحين.
جرت الانتخابات في ظرف دقيق لا شك بخطورته وحساسيته، وسيكون من غير المنصف تماماً انتقاد السلطات في دمشق لأنها لم ترفع سقف العملية التي جرت لتشبه العمليات الانتخابية في دول ديمقراطية مستقرة. مثل هذا الطموح ليس متاحاً، لكنه مطلوب كهدف، وسيكون من بين عناصره أن يجري تحقيق السياق المناسب له، وهو الاستقرار السياسي والأمني ووحدة البلاد وانتهاء تداعيات الحقبة الأسدية وعودة المؤسسات للعمل بالطاقة الكاملة.
أبرز المآخذ على الانتخابات التشريعية قضيتين: أنها جرت بنظام الانتخاب غير المباشر واعتماد نظام الكليات الانتخابية، والثاني كان استثناء محافظات الحسكة والرقة والسويداء لظروفها المعروفة وخضوعها لسيطرة قوى خارج الدولة.
مبررات الأمرين واضحة وتحدثت عنها السلطات كثيراً، لكن نصف المنجز هذا، قد يتحول إلى إشكالية لمستقبل سوريا، لو أن مخرجات الانتخابات تحولت إلى مرجعية لوضع أسس ذلك المستقبل بطريقة نهائية.
مجلس الشعب الذي سينبثق عن الانتخابات سيحظى بالشرعية من دون شك، وسيقوم بدوره الرقابي والتشريعي. لكن هل يمكن أن نتوقع من المجلس الذي لن يكون ممثلاً شاملاً ولا كاملاً للشعب السوري، أن يشدد على موضوع المراقبة ويمارس المهمة التشريعية من خلال الاهتمام بالقضايا التشغيلية للدولة، وبما يحقق تعزيز عمل المؤسسات وعودتها إلى أقصى طاقاتها؟ ذلك لوحده سيكون عنصراً مفيداً للغاية في دعم السلطة التنفيذية ومعالجة أية ثغرات يمكن أن تظهر في العمل اليومي للدولة، أما القضايا ذات الطابع الاستراتيجي أو بناء أسس النظام السياسي، بما في ذلك الحياة السياسية والحزبية، وفلسفة الدولة ذاتها.. فينبغي أن يجري الذهاب الى الاستفتاء العام المباشر للمواطنين. هذا في حال الحاجة إليها وعدم إمكان تأجيلها.
القضية هنا هي السيطرة على فكرة الشرعية وعدم السماح بما يعكر هذا المفهوم أو يمنح المشككين فرصاً للطعن بمخرجات المجلس المنتخب على أساس الشكوى من أن انتخابه لم يكن شاملاً، ويسري ذلك بشكل خاص على أبناء المحافظات المستثناة، والبعض سيدعون أنهم ليسوا جزءاً من العملية التي تمت، وبالتالي فهم ليسوا مجبرين على الالتزام بمخرجاتها أو القوانين والقرارات الصادرة عنها.
هذه الحجة تتجاهل السياق، لكنها ليست خطأ. ففي النهاية ومهما كانت الأسباب، هناك محافظات ومواطنون ليسوا ممثلين في مجلس الشعب، وهو أمر يستدعي مثلاً أن يحرص رئيس الجمهورية أن يعوض ذلك باختيار عدد مناسب من ممثلي المكونين الدرزي والكردي، وتحديداً من أبناء المحافظات المعنية ليكونوا جزءاً معتبراً من قائمته التي سيقوم هو بتعيينها في المجلس حسب الإعلان الدستوري. هذا الأمر ربما يسد نقصاً معلوماً بشكل نسبي، لكنه لن يكون نهائياً وحاسماً.
وفيما يتصل بآلية الانتخاب التي جرى اعتمادها، فإنها بدورها لا توفر القدرة التمثيلية الكاملة للسوريين. وقد قدمت السلطات كثيراً من أسباب ذلك، مثل موضوع السجلات الإحصائية للسكان، ومشكلة اللاجئين في الخارج، ومحدودية القدرات اللوجستية لإنجاز انتخابات يشارك بها الشعب بشكل مباشر. وكل هذا مفهوم ومتوقع، لكن هذه الأسباب ينبغي أن لا تكون موجودة في الاستحقاق الانتخابي المقبل، ويتوجب على الدولة التعامل معها بجدية وبشكل سريع.
وفضلاً عن معالجة المشكلات والثغرات التي ضغطت لإجراء الانتخابات بصيغتها غير المباشرة، فإن انتخابات تشريعية من دون حياة سياسية صحية وسليمة وحرة، تشمل تعدد الأحزاب والحوارات السياسية، ستكون ضرباً من العبث. ولذلك فمن المهم إصدار قانون للأحزاب يكون مناسباً لمستقبل سوريا لا لحاضرها فقط. بمعنى أن يكون قانوناً متقدماً يسمح بالحياة السياسية والتعددية وحرية التعبير، وأن تكون مسوداته متاحة للنقاش العام قبل إقرارها. هذا القانون بالذات سيكون تحدياً مهماً لمجلس الشعب وللسلطة التنفيذية معاً. فهو سيمثل الانتقال الحقيقي نحو الخروج من حالة الاستبداد وحكم الحزب الواحد أو الرؤية الواحدة. وهو خطوة جوهرية وحاسمة نحو تحول سوريا إلى دولة مؤسسات قوية.
إن مجلس الشعب الجديد بصيغته الحالية هو جزء من المرحلة الانتقالية، وليس بداية للمرحلة التالية، وربما سيكون هذا المجلس هو أول مؤسسات الحكم التي تنتهي صلاحيتها قبل مغادرة استثناء الثورة والانتقال إلى مرحلة الاستقرار وشرعية الدولة. لذلك فإن الثغرات التي جرى تسجيلها في آلية انتخابه أو في شموليته التمثيلية هي بحد ذاتها جزء من استثنائية هذه المرحلة، التي يتوجب أن لا تطول، بل وأن تكون أقصر من فترة السنوات الخمس التي وضعها الإعلان الدستوري للمرحلة الانتقالية.
