عرفت سوريا بعد الاستقلال نظاماً يمكن وصفه بالنظام البرلماني الناشئ، وكما هو معلوم تخللت التجربة الديموقراطية الوليدة انقلاباتٌ عسكرية، آخرها انقلاب البعث الذي أتى بعد أقل من سنة ونصف على استئناف الحياة الديموقراطية الوطنية، حيث كانت قد تعرّضت للقطع بانقلاب أبيض أدى إلى الوحدة مع مصر. بعد انقلاب الأسد على رفاقه في حزب البعث، أُنشأ مجلسَ الشعب، ومن المرجَّح أن يكون قد أخذ التسمية من الدستور المصري الذي اعتمدها، وكان آنذاك في طريقه إلى الإقرار عبر استفتاء شعبي.
اختار الأسد أعضاء مجلس الشعب لأول مرة، فلم تكن هناك انتخابات شكلية حتى، وبالطبع لم يقم هو نفسه بتعيين الأعضاء المختارين من مختلف أنحاء البلاد. كان لدى الأسد هيكلية تساعده، تتمثّل بالحزب الحاكم وتنظيمه الهرمي الممتد في المحافظات السورية كلها. وينقل بعض الذين عاصروا تلك الفترة، أن الأسد كان حريصاً في توجيهاته، لانتقاء الأعضاء، على إرضاء مجتمعات أهلية مثل العشائر والطوائف، وعلى إرضاء التجار خصوصاً من ضمن الفعاليات الاقتصادية، بخلاف عقيدة البعث الانقلابية التي كانت تدعو إلى إطاحة البنى التقليدية.
بدءاً من عام 1971، اكتسب مسمَّى مجلس الشعب صيتاً سيئاً، إذ قُدِّم تحت الاسم نموذج لا يمتّ بصلة إلى التجربة البرلمانية بعد الاستقلال. فضلاً عن ادّعاء تمثيل الشعب، في حين كانت العملية الانتخابية المزعومة غطاءً لتعيينات تهدف إلى توزيع أجزاء من كعكة السلطة، لكسب ودّ بعض الفئات الاجتماعية. الأمر لا ينحصر بالمجلس ذاته، ويجوز القول إن ما كان يحدث في تشكيله هو انعكاس لمنع الحياة السياسية، فلا يستقيم أن تكون هناك حياة برلمانية في بلد لا يوجد فيه حراك سياسي، وتجارب حزبية علنية بصرف النظر عن قوتها ورسوخها.
من المؤكد أنه، في غياب الحياة السياسية، ستنتعش في الكواليس أنواع المحسوبيات والزبائنية السلطوية. ففي غياب التنافس البرامجي تتقدّم الصلات الشخصية كبديل عن الشبكات التي تصنعها التجربة السياسية والحزبية، وعمليات التفاوض أو المساومة، أو تدوير الزوايا، التي تحدث من خلال النشاط السياسي العام والشفاف تنتقل جميعاً إلى الظل لتكون مقايضات من نوع مختلف تماماً.
وحتى ما كان وبقي يُشاع عن ضعف تمثيل بعض الفئات في انتخابات حقيقية، هو افتراض لا تسنده تجربة عملية. فالتجربة السياسية العملية هي التي تدفع بالمتنافسين إلى محاولات كسب ودّ مختلف الشرائح الاجتماعية، بما فيها الأقل عدداً، إذ ربما تلعب أصواتها دوراً مرجِّحاً. أيضاً، هذه اعتبارات تختفي تماماً عندما تكون علاقة الطامحين بالسلطة التي حلّت مكان الناخب، إذ تقتضي الوضعية البديلة سعي الطامح إلى إرضاء السلطة، والصراع بينه وبين المتنافسين الآخرين يكون على مَن منهم قادر على كسب ودّ السلطة أكثر من الآخر. ومن المعهود في هذه الحالات أن يُظهر الطامح إلى المنصب أنه ملكي أكثر من الملك، وهكذا تستفيد منه السلطة مرتين، مرة على قاعدة الولاء، ومرة بإظهار نفسه أمام العموم على أنها أفضل الخيارات المتاحة واقعياً.
في التجربة الحالية، وبصرف النظر عن الموقف الإجمالي من السلطة ككل، فهي لم تُظهر منذ الإعلان الدستوري عزماً على طي صفحة الماضي بأركانه لا بشخوصه فحسب. تجربة "مجلس الشعب" فيها استنساخ للماضي، بدءاً من الاسم الذي ينتمي إلى منظومة فكرية هي في أحسن أحوالها ابنة زمن انقضى، بخلاف تسميات تقنية ليس لها بعد أيديولوجي مثل المجلس النيابي، أو المجلس التشريعي. وفي ظروف المراحل الانتقالية عموماً تكون التسمية الأخيرة هي الموافقة للواقع، من حيث لزوم سد الفراغ التشريعي وعدم الجهوزية لإجراء الانتخابات التي يقتضيها مفهوم النيابة عن الناخبين.
وصفُ ما جرى بعملية اختيار للأعضاء هو الوصف الواقعي، لأن اختيار ما سُمّي بالهيئات الناخبة تم من قبل السلطة، ولا يستقيم أن تختار السلطة الناخبين ثم يُوصف ما حدث بأنه عملية انتخاب. ومن المستحسن هنا ألا يُقابل هذه الكلام بسفسطة لغوية تتعلق بجذر الكلمة، لأن الحديث يدور دائماً حول الدلالات السياسية المعاصرة. إن استخدام التعبير المناسب يغني عن الكثير من الجدالات التي تثيرها كلمة الانتخابات، وأيضاً عن تداعيات عملية الاختيار ككل.
في واحد من الأمثلة، توقّفَ كثر عند تدني حضور المرأة ضمن اختيارات الهيئات الناخبة لعضوية المجلس، مع أن هذه الحصيلة تنسجم مع تدني تمثيلها ضمن الهيئات الناخبة التي شكّلتها السلطة، ويمكن النظر في الوظائف العليا عموماً للتأكد من أن النساء لا ينلن حصة من الحضور تتناسب مع ثقلهن المجتمعي ونسبتهن من عموم المواطنين. في هذه الحالة، إذا كان تصحيح خلل التمثيل مناطاً بالحصة التي يختارها رئيس المرحلة الانتقالية، فهو يعطيه ميزة إذا ظهرت تعييناته المباشرة أفضل مما ظهر عليه الانتخاب الصوري. بدورها، هذه الصورة تحيل إلى الماضي، إذ يبدو الرئيس ضامناً للتنوع الاجتماعي، بينما الذين حوله أقل قبولاً به، لتنعكس الخلاصة (من دون جهر بها) على عموم المسائل المتعلقة بالاجتماع السياسي السوري.
في الاصطفافات التي ظهرت على السوشيال ميديا حول موضوع المجلس، واحد من أهم حجج أنصار السلطة يتمحور حول عدم إمكانية إجراء انتخابات شعبية، واتهام الذين يريدون الانتخابات بعدم الواقعية. والحق أن عدم الواقعية لا يتجزأ، فإذا كانت الانتخابات غير ممكنة فالمنطق ألا يُسمّى ما حدث بالانتخابات، من باب الواقعية نفسها. وواحد من أهم أوجه الواقعية هو استخدام التعابير الصحيحة والدقيقة، لأن إزاحتها عن الواقع هي بمثابة تزييف له وللّغة، التي لا تعود تؤدي غاية التواصل الحقيقي.
في التجربة التي يعرفها السوريون جيداً، كان هذا التحريف دائماً بمثابة وبال عليهم، فهو عندما يبدأ لا يتوقف عند حد. إن تفريغ أي تعبير من المعنى المتفق عليه يؤدي إلى انعدام الثقة المطلق، فتفريغ الانتخابات من معناها يؤدي (على سبيل المثال) إلى تفريغ كلمة القانون أيضاً من معناها، ليسود عدم احترام القانون، وهو ما يحدث في أمثلة كثيرة تعبّر عن فقدان المصداقية.
الاحتيال على الأمر بمزاعم شتّى، أهمها زعم الخصوصية، مُجرَّب أيضاً ويعرفه السوريون جيداً، والتذاكي لا يهدف سوى للتملّص من تبعات استخدام المفاهيم في غير مكانها، وكأن خداع السوريين سهل، بينما يحدث العكس إذ يكون انعدام الثقة هو الأسهل منالاً. زعمُ حدوث الانتخابات هو خطوة جديدة في منحى إعادة إنتاج الفجوة بين الكلام والواقع، ولا يلزم الكثير من النباهة للتأكد من أن قول الحقيقة على علاتها أقل كلفة على المدى المتوسط والبعيد.
