لأكثر من عام ونيف، شنت حملات رسمية على جانبي الأطلسي ضد هتافات "الحرية لفلسطين" و"من النهر إلى البحر"، تلك الشعارات التي وصفتها الصحافة البريطانية بأنها مثيرة للجدل في كل مرة تناولتها تقريباً، واعتبرتها وزيرة الداخلية السابقة في حكومة المحافظين شعارات معادية للسامية، وتحض على العنف، ومن الواجب التصدي لها ضمن قوانين الإرهاب. وهي الوزيرة نفسها التي حرضت منتسبي اليمين المتطرف على الخروج إلى الشوارع للتصدي للتظاهرات الداعمة لغزة. وهو ما حدث بالفعل، وانتهى نزولهم باشتباكات عنيفة مع الشرطة، ومن ثم إقالتها من منصبها.
إلا أن تلك الشعارات قد تجاوزها الزمن، لا لأن حرية فلسطين تصير أبعد كل يوم، بل لأن إيقاع تلك الهتافات أضحى أشبه بموسيقى تصويرية للإبادة، التي لا تتراجع مذابحها بل يثقل رصيدها مع الوقت. خواء تلك الهتافات يكمن في أنها أشبه بتعويذة للتمني عاجزة عن اقتراح طريقة لتحقيقها، كيف لفلسطين أن تكون حرة؟ وبأي الوسائل ستمتد حدودها من النهر إلى البحر؟
في ظل تواطؤ النخب السياسية الغربية مع تل أبيب، وتحدي حكوماتها للرأي العام العالمي المتعاطف في أغلبيته الساحقة مع الفلسطينيين، تتراجع الشعارات المشذبة ومنزوعة الفاعلية، لصالح هتاف خشن ومباشر وغاضب كما يجب: "الموت لجيش الدفاع الإسرائيلي". الصيحة التي أطلقها الثنائي الغنائي الإنكليزي، "بوب فيلان"، يوم الأحد الماضي كانت على منصة مهرجان غلاستونبري، وهو المهرجان الغنائي الأكبر في بريطانيا، وثاني أكبر مهرجان في أوروبا، حيث يستضيف هذا العام أكثر من 300 ألف من الحضور، بزيادة مئة ألف عن العام الماضي.
على سبيل السهو، نقلت "بي. بي. سي" المشهد على الهواء مباشرة، وألوف من الحضور يرددون الشعار نفسه: "الموت للآي دي إف". الرسائل واضحة هنا، يضيف فيلان من على المنصة نفسها: في بعض الأحيان يتعين إيصال رسالتك باستخدام العنف، لأن هذه هي اللغة الوحيدة التي يتحدث بها البعض، لسوء الحظ".
في اليوم التالي، سمع الهتاف ذاته في مظاهرة في مدينة ليستر الإنكليزية، وبالتوازي أعلنت الشرطة البريطانية عن فتح تحقيق بشأن مقطع فيديو يظهر عشرات من المتظاهرين أمام محكمة وولتش في جنوب لندن يهتفون بالشعار نفسه. كانت المحكمة تستمع إلى مرافعات قانونية تمهيداً لثلاث محاكمات يمثل فيها 18 عضواً من منظمة "بلستين أكشن" (العمل الفلسطيني) والمقرر أن تبدأ في نوفمبر المقبل.
وفي واحدة من تلك القضايا يواجه عدد من منتسبي المنظمة تهمة اقتحام مقر شركة أسلحة إسرائيلية في المملكة المتحدة الشهر الماضي. ولعل اسم المنظمة الذي يتضمن كلمة "أكشن" يفيد بتحول إلى الفعل المباشر، بعد عجز التظاهرات السلمية التي ضمت مئات الألوف بشكل أسبوعي في لندن والمدن البريطانية الأخرى، في إحداث أي تأثير. كانت المنظمة قد تسببت الشهر الماضي في حرج بالغ للحكومة البريطانية بعد أن تسلل اثنان من نشطائها إلى قاعدة "بريز نورتن" الجوية العسكرية، بعد أن تجاوزا التحوطات الأمنية، وقاما برش طائرتين عسكريتين بالطلاء الأحمر، قبل أن يغادرا من دون أن يتم رصدهما. وهو الأمر الذي دفع الحكومة إلى اتخاذ أجراءات مفرطة في قسوتها، حين طرحت مقترح قرار أمام البرلمان يصنف المنظمة كمنظمة إرهابية، مما قد يعرض منتسبيها إلى أحكام بالسجن قد تصل إلى 14 عاماً.
تواجه الحكومة البريطانية الحراك المحلي المتصاعد ضد الإبادة الإسرائيلية في غزة بالمزيد من القمع، حيث فتحت الشرطة البريطانية تحقيقات بشأن مهرجان "غلاستونبري" تطول علاوة على "بوب فيلان"، فرقة "نيكاب" الإيرلندية الشمالية، والتي يواجه أحد أعضائها اتهامات بدعم الإرهاب، على خلفية رفعه لعلم حزب الله في واقعة سابقة. ومن جانبها كانت "بي. بي. سي" قد قامت بفرض رقابة مسبقة على المهرجان، حيث امتنعت عن نقل فقرة "نيكاب" على الهواء، تحسباً للشعارات السياسية الإشكالية، وقامت لاحقاً بحذف فقرة "بوب فيلان" من تسجيل الحفل على منصتها الإلكترونية. وبالرغم من كل هذا يظهر أن ما حدث نهاية الأسبوع الفائت كان أكثر من مجرد صك شعار جديد.