لا شك أن الحكومة السورية الحالية تسعى بجدية إلى استعادة سلطتها على كامل البلاد، بعيدًا عن أي صدام عسكري، لتجنيب السوريين مآسٍ جديدة تزيد من عمق ذاكرة العنف في تاريخهم الحديث. وتأتي في هذا السياق المباحثات المستمرة مع وفود من مكونات اجتماعية مختلفة، كالدروز والساحل والكُرد، حيث تتقدّم عبارات السلم الأهلي والمصالحة على نُذر التوتر، والتي لا تزال تشكل مشهدًا عامًا يعيق الوصول إلى البيئة الآمنة المرجوة، لتحقيق النمو والاستقرار لكل السوريين، بما في ذلك المناطق الخارجة جزئيًا أو كليًا عن السيطرة الحكومية حتى الآن.
وفي سياق التفاوض بين حكومة الرئيس أحمد الشرع و"قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، تبرز تحديات جوهرية، تتصل من جهة بمفهوم السيادة الوطنية غير القابلة للتفاوض أو التجزئة، ومن جهة أخرى بمفهوم الحقوق الجماعية للمكونات السورية، ومنها المكوّن الكردي، الذي يرى في "اللامركزية الموسعة" ركيزةً أساسية لأي تفاهم سياسي أو أمني.
في المقابل، تعلن الحكومة أن وحدة البلاد هدف لا يمكن التنازل عنه، مؤكدة أن التعامل مع سوريا والسوريين لا يمكن أن يتم على أساس التمايز المناطقي أو التمييز في الحقوق، أو القبول بأن يكون التمرد على قرارات الدولة وسيلة لتحقيق مكاسب خاصة. ولهذا، فإن العودة إلى حوار وطني شامل حول شكل الدولة وتوزيع الصلاحيات الإدارية، قد يشكّل مدخلًا واقعيًا لأي تفاهم، من دون أن يُفضي إلى خصومة سياسية مع أي مكوّن، أو إلى خلاف عقيم يُبقي التفاوض في دائرة المراوحة، والدخول في متاهة مقسوم لا تأكل وصحيح لا تقسم.
وفي هذا السياق، فإن الحديث عن تمسّك الحكومة بمركزيّتها الصارمة لم يعد دقيقًا، في ظل ما نراه من مرونة تفاوضية مع أهالي جرمانا، والسويداء، والساحل، و"قسد". هذه المرونة لا تمس مصالح الأطراف، ولا تُضعف شرعية الدولة، بل تُسهّل التقارب في إطار احترام السيادة السورية الكاملة، ورفض تحويل سوريا إلى "مناطق نفوذ" أو "استثناءات مناطقية" تقوم على أسس قومية أو طائفية.
ولذا، فإن البحث عن حلول إدارية تمنح كل المحافظات السورية، وعلى قدم المساواة، القدرة على تحقيق تنمية اقتصادية وبناء مجتمعي، وتمكّنها من المشاركة الفاعلة في الحكم، ضمن مشروع دستوري مستقبلي جامع، وهو الكفيل بتحويل مشروع الحوار إلى واقع مستدام، لا يحتاج لضمانات خارجية، بل يقوم على الإرادة الوطنية.
من حق المكونات السورية أن تكون شريكة في إدارة مناطقها، بل من حق جميع السوريين أن يعيشوا في ظل لامركزية إدارية رشيدة، لا تتعارض مع سلطة الدولة، ولا تُهدد سيادتها، ولا تمنع إشرافها الكامل على الأمن والحدود والثروات، وهي مسؤوليات مناطة بجيش موحد يعمل تحت قيادة مركزية وطنية.
ولا شك أن تطبيق الإدارة المحلية الرشيدة من شأنه أن يُخفّف العبء عن الدولة، ويُفعل دور المجالس المحلية المنتخبة، ويُطلق الطاقات المجتمعية نحو خدمة نفسها بنفسها. وفي هذا الإطار، لا يمكن إنكار أن للمكونات الاجتماعية في شمال شرق سوريا -من عرب وكُرد وسريان وآشوريين- حقوقًا ثقافية وسياسية واقتصادية مشروعة، مثلها مثل بقية المكونات على كامل التراب السوري. ومن حقها أن تُطالب بإدارة محلية فعالة، وتمثيل سياسي حقيقي، وضمانات لحماية هويتها الثقافية، وعدالة ترفع عنها التهميش التاريخي.
مهمّة الأطراف المتفاوضة هي الحفاظ على مساحة الحوار من أجل إنتاج آليات عمل تتجاوز الماضي الأليم، بما في ذلك التهميش الذي عاناه السوريون عمومًا، والكُرد خصوصًا. واستمرار هذه الجلسات التفاوضية يُعدّ إشارة إيجابية على الرغبة المشتركة في بناء عقد اجتماعي جديد، يعترف بتنوع سوريا، ويؤسس لإدارة هذا التنوع ضمن دولة موحدة عادلة، وسيادة لا تتجزأ، فعدالة الدول تأتي من توسيع مشاركتها، وليس من تقسيم سيادتها، ومن بين ذلك وحدة جيشها ومركزية قراره وتحديد مساره.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها