newsأسرار المدن

التطبيل ومراتب أهل السلطة في سوريا

عمر قدورالثلاثاء 2025/05/20
GettyImages-2214505239.jpg
المنحبكجية الجدد استلهموا تجربة القدامى (Getty)
حجم الخط
مشاركة عبر

قبل ثلاثة أيام أزال الأمن العام لافتة في اللاذقية عليها صورة الشرع، مع عبارة تمجّد "القائد الذي صدق وعده وعهده". لاحقاً قيل إن صاحب اللافتة كان من موالي الأسد، وتم تناقل ذلك بنوع من التبرؤ مما صار يُسمَّى "التطبيل" للسلطة الجديدة، والتعبير صار دارجاً في الإشارة إلى فئة من الموالاة أُطلقت عليها أولاً تسمية الشبيحة الجدد.

الطريف في الأمر أن عدد المطبِّلين للسلطة (على خلفية إزالة اللافتة) هو كبير جداً على السوشيال ميديا، وأشدّ تأثيراً من وجود تلك القماشة على واجهة مبنى في شارع في اللاذقية. وامتداح نزع اللافتة يجد له سنداً بالمقارنة مع زمن الأسد، حين كان البلد مليئاً بلافتات مشابهة، فضلاً عن التماثيل الموجودة في كل بلدة ومدينة. المقارنة صارت هي السائدة لدى موالي العهد الحالي، ولا ينتبه أصحابها إلى أنهم قبل شهور، وطوال سنوات أو عقود، كانوا يقارنون ما هو موجود لدى سلطة الأسد بما هو متوفر في الغرب من حريات وسواها، أي أنهم انقلبوا على مرجعية المقارنة إذ جعلوا أدنى عهود سوريا معياراً.

والواقع، أن صاحب اللافتة المُزالة ليس وحده من إرث الأسدية، فالذين بالغوا في امتداح الإزالة هم من التركة ذاتها، إذ لا يصعب مع قليل من التدقيق الانتباهُ إلى أنهم من أرومة الموالاة التي هي صناعة الزمن الأسدي. ففي سوريا ما بعد الاستقلال لم تكن فكرة الولاء حاضرة قبل انقلاب حافظ الأسد، وماكينته هي التي واظبت على اصطناع الموالين، وعلى استخدام كلمة الولاء (مباشرة وبلا مواربة) بمعنى أنه مبايعة غير مشروطة له، مع التنويه بشيوع كلمة المبايعة أيضاً.

منذ الأيام الأولى لإسقاط بشار الأسد، تبيّن أن إرثه وإرث أبيه موجودان في نفوس كثر انتقلوا بسرعة شديدة إلى موالاة السلطة الحالية، بعدما كانوا من موقع الثورة ضد هيئة تحرير الشام وقائدها. الأمر مرة أخرى لا يتعلق بتأييد السلطة، فالتأييد ترتبط دلالته بتقديم الدعم، وهو مرتبط غالباً بموقف ما أو بمجمل الأداء، أي أنه مشروط ضمناً أو علناً. أما الموالاة فهي بموجب دلالتها الشائعة دعمٌ غير مشروط بموقف ما، والولاء للسلطة لا يتضمن مطالبتها بأي التزام لقاء مبايعتها. ثم بعد ذلك يصبح الدفاع عن السلطة بمثابة التزام شخصي، لأن صاحبه يهدف أيضاً للدفاع عن أحقيتها بولائه.

الموالاة طبقات، أدناها المتطوّعون الذين لديهم وهم امتلاك السلطة، من دون أن يكونوا شركاء في أيّ من مستوياتها. لكنهم جمهورها العريض الذي يُراهَن عليه، بينما يتولى تسيير دفته مستفيدون فعليون من السلطة، أو شبيحة أو مطبِّلون لها. هذا ما كان عليه الحال خلال عقود، وعلى صعيد التسميات برزت في عهد بشار تسمية المنحبكجي، وهي خلاصة عبادة الفرد، حيث صارت العلاقة المعلنة بالسلطة يُعبَّر عنها عاطفياً لا سياسياً.

الذي رفع اللافتة في اللاذقية هو أقرب ليكون منحبكجياً، إلا أنه يعبّر عن مجموعة واسعة من المنحبكجية الجدد الذين استلهموا تجربة القدامى مع المزايدة عليها بابتكار مبالغات جديدة. عالم السوشيال ميديا مليء بمظاهر تقديس الفرد المنصرفة إلى الرئيس الجديد، ويُعلى من شأن التقديس بالقول إنه طوعي وناجم عن محبة حقيقية، وليس على غرار منحبكجية آل الأسد. وإذا كان يصعب لوم السلطة على ما يحدث في عالم السوشيال ميديا، أي خارج سيطرتها، فإن بعض كبار المنحبكجية والمطبِّلين لها على وسائل التواصل يحظون بالقرب منها، وهم في واجهتها الإعلامية، بحيث لا يمكن القول إنهم يتصرفون ضد ما تريده حقاً، بما فيه التناقض بين الخطاب الرسمي المعتمد والخطاب الطائفي الذي يقدّمه هؤلاء على حساباتهم الخاصة.

على مدار الساعة، يمدح الموالون الجدد السلطة، ومهما فعلتْ، وهم يسبقونها فقط عندما يكون ثمة ما يحتاج للتبرير، فيتطوعون بتقديم مبررات لا يندر أن تدحضها تصريحات رسمية لاحقاً. في مثال طازج، تطوع الموالون في اختراع مختلف أنواع المبررات التي تعفي السلطة من المسؤولية عن نقل ما يتعلق بالجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين من سوريا إلى تل أبيب، ومن ذلك القول أن العملية حدثت منذ سنوات، في حين صمتت السلطة نهائياً عن الموضوع رغم حساسيته. والذين قدّموا المبررات هم أنفسهم مستعدّون لتبنّي ما قد يُقدَّم رسمياً، وبلا مراجعة لما قالوه من قبل.

بخلاف حالة التبرير، يتخلّف الموالون عموماً عن السلطة، وهم يستخدمون التعبير الدقيق إذ يقولون إنهم خلف قيادتها. هذا فرق أساسي بين المؤيِّد والموالي، فالأول قد يسعى ليكون إلى جوار السلطة، وشريكاً لها في التفكير، أو حتى سبّاقاً عليها. أما الموالي فهو ينتظر ما يصدر عنها، ليمتدحها على أي حال. أيضاً، ثمة إرث أسدي، في اللغة وفي التفكير والسلوك، عندما يكون الموالي خلف سلطته، فهو بالتأكيد لن يرى ما تراه، ولن يكون نقدياً. اللغة ذاتها تطل من أقوال رسمية لمسؤولين يقولون إنهم خلف القيادة، أو لوزراء يكررون الكلام عن العمل بتوجيهات الرئيس، وهذا تعبير موروث أيضاً، ويعزز فكرة التراتبية على حساب التشارك ضمن الحكومة ذاتها. التراتبية التي تعني وجود مركز وهامش ضمن السلطة يعرفها السوريون جيداً منذ انقلاب البعث، إلا أن حكم الأسد رسّخها، واليوم سريعاً صار يُحكى عن الذين يمثّلون مركز القوة الجديد.

لم يكن الكلام عن ظاهرة "التطبيل" ليزداد لولا تفاقم الظاهرة، بينما المنغمسون فيها يواصلون اختراع أسباب المديح وكأنهم في سكرة لا صحو بعدها. فإذا توقف وزير بسيارته عند إشارة مرور فهذا خبر يُتداول كأنه لا يحدث إلا في سوريا، وإذا صرف وزير مكافأة مالية جيدة لموظف فهو خبر آخر عن النقلة الهائلة التي حدثت في البلد، فتتجه الأنظار إلى الوزير لا إلى الموظف الذي يستحق عن جدارة! وإذا ساعد شرطي مرور رجلاً بكرسي متحرك كي يعبر الشارع فهي معجزة للعهد الحالي، وكأن شرطة المرور من قبل كانوا جلادين، وليس بينهم من تدفعه المروءة لمساعدة عابر سبيل.

الموالون بدرجاتهم لا ينظرون إلى أداء السلطة، وإلى ما يرونه إيجابيات، على أنهما من واجباتها. الموالون أسرى أيضاً للإرث الأسدي الذي رسّخ مفهوم "المكرمة"، حيث صار أداء السلطة لأدنى واجباتها مكرمة تُشكر عليها وتُمدح لأجلها. وأهم إضافة على الإرث الأسدي هي مقارنة الحكم الحالي بالصورة المعروفة عن التيار السلفي، ثم امتداحه على كل لفتة اعتدال وكأنها مكرمة منه، لا بوصفها واجباً من موجبات السلطة.

تشبيه مراتب أهل السلطة بما كانت عليه في عهد الأسد لا يدخل في باب البلاغة، فهي مراتب استغرق تكريسها عقوداً، والحكم الحالي ورثها وإن حدث تبادل للأدوار. الإفلات من الترسيمة الأسدية قد لا يكون سهلاً، لكنه ليس صعباً متى وجِدت القناعة الحقيقية بالتخلص من الأسدية. وإذا كان تجريم رموز الأسدية قد وجد طريقه إلى الإعلان الدستوري فمن الجيد أن ينتبه الموالون الجدد إلى أنهم يعيدون إنتاج ما زعموا معاداته، فالأسدية لم تكن فقط مجرد مجازر واعتقالات وتهجير، إنها أيضاً هذه المراتب وطبقات الولاء، وهذا الطبل الذي يصمّ الآذان والعقول.  

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

تابعنا عبر مواقع التواصل الإجتماعي

  • image
  • image
  • image
  • image
  • image
subscribe

إشترك في النشرة الإخبارية ليصلك كل جديد

اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث