الحدث العالمي الأبرز الذي تخلل تشييع البابا فرنسيس، كان اللقاء بين ترامب وزيلينسكي على هامش التشييع. ولا تزال حاضرة في الذاكرة الضجة العالمية التي أثارها "اللقاء- الإشكال" الأول بين الرجلين في شباط المنصرم بالمكتب البيضاوي. وصورة ذلك اللقاء خلقت انطباعاً بصعوبة تكراره، على الأقل خلال هذه الفترة القريبة التي فصلت بين اللقائين.
حضور زيلينسكي مأتم التشييع، كاد يغطي، ليس على مفاجأة عقد اللقاء فقط، بل وعلى مأتم التشييع نفسه. وكأن العالم الذي كان حاضراً برؤسائه وقادته ونخبه التشييع، أراد أن ينتقم من بشاعة مشهد لقاء المكتب البيضاوي بين زيلينسكي وترامب في شباط/فبراير الماضي. إذ حين دخل زيلينسكي قاعة التشييع بلباسه الأسود المعتاد منذ الغزو الروسي، هب العالم الحاضر على قدميه وقوفاً، مصفقاً ومرحباً لدقائق، بالرئيس الرمز للصمود بوجه غزو نموذج الهتلرية الجديد الذي يمتشق البلشفية، صنو النازية، في حربه على الغرب عبر أوكرانيا.
بالمقابل، حين دخل ترامب القاعة بلباسه الرسمي الأزرق، خلافاً للرسمي الأسود الذي كن يرتديه الحضور، لم يتحرك أحد من مكانه، وبقي مخيماً صمت الخشوع بحضور الموت. وجلس الرجل بين زعماء العالم الآخرين، في حين، وخرقاً للتقاليد، خص الفاتيكان زيلينسكي بمقعد في الصف الأمامي المخصص لكبار أحبار الفاتيكان.
قد تكون الحمية أخذت البعض، وافترض أن مشهد الترحيب الحار بحضور الرئيس زيلينسكي، والصمت المطبق الذي واجه حضور ترامب، زعيم الدولة الأكبر جبروتاً في العالم، ترك تأثيره على قرار ترامب بلقاء زيلينسكي لمدة خمس عشرة دقيقة، في قاعة جانبية على مقعدين بسيطين متقاربين. وذهب البعض بعيداً ليتحدث عن دور اللقاء في قرب انتهاء الحرب الأوكرانية، بل وذهب آخرون للقول بأسبوع حسم في تقرير مصيرها.
وسواء كان لمشهد الترحيب بزيلينسكي ومهابته في حاضرة الفاتيكان وهي تودع الحبر الأعظم، تأثير أم لا على عقد اللقاء، إلا أن أصداءه لا تزال تتصدر مواقع الإعلام. ما جرى في اللقاء عينه كان ضئيلاً للغاية، ولم يفصح أي من الطرفين عن تفاصيل الحوار الذي دار. ترامب، من جهته، وصف اللقاء بعد مغادرته روما بأنه كان جيداً، ووصفه زيلينسكي بأنه "رمزي، وقد يصبح تاريخياً".
وعلى خلاف ما درج عليه ترامب من تودد لبوتين في تصريحاته بعد دخولة الثاني إلى البيت الأبيض، وتعهده بإنهاء حرب روسيا على أوكرانيا، انتقده بعد اللقاء، واتهمه في عرقلة التوصل إلى وقف لإطلاق النار المؤقت، وأعرب عن شكوكه في تحايل بوتين عليه.
وجاء الإعلان في الأول من الجاري عن التوقيع في واشنطن على اتفاقية خامات المعادن النادرة الأوكرانية بين الولايات المتحدة وأوكرانيا، إضافة إلى انتقاد بوتين العلني، ليدفع بعض الكتّاب االسياسين للقول بأن اللقاء في الفاتيكان حقق خرقاً لصالح أوكرانيا في المقاربة الأميركية للمفاوضات بشأن التسوية في الحرب الروسية على اوكرانيا.
طرحت "المدن" على عدد من الخبراء الأوكران بعض الأسئلة حول اللقاء والاتفاقية وما يقال عن قرب نهاية الحرب وغيره.
رئيس مركز البحوث السياسية التطبيقية Penta الأوكراني Vladimir Fesenko، وفي إطلالته الأولى في "المدن"، قال إن دوائر الخبراء الأوكران يقيمون الاتفاقية إيجابياً، بشكل عام. وهي تتعلق بإنشاء صندوق أميركي أوكراني لاستثمار الخامات المعدنية الأوكرانية الثمينة من أجل إعادة الإعمار.
في الصيغة الأميركية الأولى للاتفاقية، حاولت إدارة ترامب طرح المساعدات الأميركية العسكرية والمالية المجانية، على أنها ديون تسددها أوكرانيا من أموال هذا الصندوق. لكن "صيغة الديون" هذه سقطت في الاتفاقية الموقع عليها في 30 الشهر المنصرم، وتنص على تقاسم إدارة لصندوق وأرباحه مناصفة.
يعرب الباحث عن الأمل في أن الاستثمارات الأميركية الوازنة التي تفترضها الاتفاقية، ستحول دون شن روسيا حرباً جديدة على أوكرانيا. ورغم أن الاتفاقية لا توفر ضمانات أمنية مباشرة لأوكرانيا، إلا أنها تتضمن أحكاماً تسمح باستخدام هذا الصندوق لشراء أسلحة أميركية لأوكرانيا.
وعما إذا كان يرى نهاية سريعة للحرب بعد لقاء ترامب وزيلينسكي، أعرب الخبير عن الأسف لأنه لا يرى حتى الآن ظروفاً متوفرة لنهاية قريبة للحرب. فروسيا لم توافق حتى الآن على المفاوضات بشأن وقف إطلاق النار. وبوتين يريد الاتفاق مع ترامب على "صفقة كبيرة"، ولا يريد إنهاء الحرب. لكن إذا شدد ترامب ضغوطاته على بوتين، قد يصبح ممكناً بعد بعض الوقت، التوصل إلى اتفاقية وقف إطلاق النار، لمدة ثلاثين يوماً في البداية، ومن ثم قد يكون لمدة أطول. لكنه يرى أن مخاطر تجدد الحرب ستبقى حتى في حال توقيع الاتفاقية.
وعن تقييمه لوساطة ترامب، ورأيه في الانتقاد الذي وجهه لبوتين بعد لقائه مع زيلينسكي، قال الخبير إنه، مهما كان موقفنا من ترامب، إلا أن وساطته بالذات تبقى القوة الوحيدة المحركة لمفاوضات السلام لإنهاء الحرب في أوكرانيا. ورأى أنه لا ينبغي البناء على تصريحات متفرقة لترامب. لكنه قال إنه حتى الآن يمكن أن نلاحظ ظهور بعض الشكوك الأميركية بشأن نوايا بوتين الحقيقية تجاه مفاوضات السلام وإنهاء الحرب. غير أن اللقاء لم يحدِث تغيرات جذرية في موقف ترامب من بوتين.
رئيس المركز التحليلي الأوكراني البوليتولوغ Oleg Lisny، وفي تقييمه لاتفاقية الخامات الأميركية الأوكرانية، قال لـ"المدن" إنها بالتأكيد نجاح للدبلوماسية الأوكرانية التي تمكنت من الحفاظ على حوار بنّاء مع واشنطن. واعتبر أن أوكرانيا قدمت فعليًا هدية كبيرة لدونالد ترامب الذي أخذ "يبيعها" في الولايات المتحدة باعتبارها انتصارًا كبيرًا له. واعتبر الاتفاقية نوعاً من مشاركة الولايات المتحدة في ضمان أمن أوكرانيا، باعتبارها مكانًا تتواجد فيه المصالح الاقتصادية الأميركية.
وبشأن نهاية الحرب، وما إذا كان من الممكن الحديث عن أسبوع حاسم بهذا الشأن بعد لقاء ترامب- زيلينسكي، قال Lisny إنه لا يزال متشككاً بشدة بشأن قضية النهاية السريعة للحرب. وبرأيه الشخصي، يدور الحديث الآن عن وقف إطلاق نار شامل وطويل الأمد. ويقول إن روسيا تنسف هذه الفكرة بالإعلان عن "هدنات" مزيفة. ويرى أن العملية السلمية هي الآن في "النقطة صفر".
وعن انتقادات ترامب لبوتين إثر لقاء الفاتيكان، وهل ستسفر عن تغير ملموس في العلاقات الروسية الأميركية، قال الخبير إن اللقاء أحدث صدى مدوياً في العالم، وغطى على تشييع البابا. وكان اللقاء نتيجة للجهود الجبارة التي بذلها فريقي الرئيسين الفرنسي والأوكراني، وكذلك رئيس الوزراء البريطاني.
رئيس مركز التحليل والاستراتيجيات البوليتولوغ Igor Chalenko، رأى أن الاتفاقية متوازنة وتراعي مصالح الأوكران والأميركيين، وهي تختلف عن الصيغة التي سربتها الصحافة في آذار/مارس المنصرم. ورغم أنها لا تتضمن ضمانات مباشرة لأمن أوكرانيا، إلا أنها تشتمل على آلية للمساعد العسكرية الأميركية في المستقبل.
ويشير الخبير إلى أن إمكانية إنهاء الحرب حتى موعد سنوية النصر على ألمانيا في 9 الجاري متاحة أمام بوتين، إلا أنه يسعى مع محيطه لإطالة أمد العمليات الحربية.
وعن انتقاد ترامب لبوتين، قال الخبير إن ترامب ليس الزعيم الذي يسمح بخداعه. لكن هذا ما حصل خلال الجولات المتعددة من المفاوضات بين روسيا والولايات المتحدة. ويرى من السابق لأوانه الحديث عن نهاية الحرب، وهي ستنتهي عن طريق الدبلوماسية.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها