خلال فترة الإعداد للانتخابات الأوروبية، وكذا للانتخابات التشريعية الفرنسية، وحتى ما تلاهما من صراعات جدلية حول تشكيل الحكومة، أصرّ خطاب جزء مهم من ممثلي اليسار الفرنسي، وبتميّز إنساني وأخلاقي كبير، على التركيز على الحدث الفلسطيني، بما يعنيه هذا الأمر من التضامن المنظّم مع غزة وأهلها، وإدانة المعتدي. إضافة إلى ذلك، فقد تم إثراء خطابهم العام كما مداخلاتهم الإعلامية بكثير من تفاصيل الانتهاكات الوحشية التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي. وقام ممثلو حزب فرنسا الأبية، وهم يمثلون القوة الأكبر في الجبهة الشعبية الجديدة، بحصر خطابهم الذي توجهوا به إلى الناخب الفرنسي بقضية غزة، وذلك بشكل شبه كامل. بالمقابل، حاولت الأحزاب اليسارية الأخرى، ومنها الشيوعي والاشتراكي، والمتحالفة معه، الابتعاد عن هذا الملف الذي اعتبرته شائكًا، ملتزمة بذلك بخط السياسيين التقليديين الذين إن لم يدعموا إسرائيل بشكل كامل، يميلون الى الصمت والنأي بالنفس عما يخصّها، وذلك خوفًا من ردود فعل جماعات الضغط المقرّبة من اليمين المتطرف الإسرائيلي.
ضمن هذا الخط "الفلسطيني" المنتهج من قبل هذه المجموعة اليسارية المتشددة، فقد صار من النادر أن يخرج إلى العلن أحد رموز حزب فرنسا الأبية للحديث في أمرٍ محليٍ له علاقة مثلاً بالقدرة الشرائية، أو العدالة الضريبية، أو دعم الصادرات، أو رفع الأجور والرواتب. لقد انحصر الأمر بالمشهد الفلسطيني بتشعباته وتعقيداته ورهاناته.
إنه إذًا توجّهٌ غير مشكوك في مصداقيته. وأثار انتقادات جميع اليمين وبعض اليسار. وفي هذا الإطار، ركّزت المجموعات السياسية اليمينية على طرح برامجها المرتبطة بالشأن المحلي اقتصاديًا وأمنيًا وسياسيًا، على الرغم من افتقاد معظمها لمثل هذه البرامج، أو ابتعاد الجدية والتفصيل عن برامج تم الاستعجال في انجازها. وفي المقابل، وأينما حلّوا، يتوجه ممثلو اليسار المتشدد إلى الناخب الفرنسي وكأنه مولودٌ في القدس أو في خان يونس، فينهمكون بتحليل الأوضاع القائمة في الأراضي المحتلة، ولا ينسون أن يدينوا صمت دولتهم الفرنسية. وقد تطرّف هذا التوجه إلى درجة دفعت بعض المراقبين للحديث عن سعي حزب فرنسا الأبية إلى تصويت العرب والمسلمين. واستغل اليمين بأنواعه هذا الأمر للإشارة إلى أن الحديث المستمر عن القضية الفلسطينية ما هو إلا ترجمة فاضحة لانتهازية يسارية واضحة، يسعى من خلالها هذا اليسار إلى جذب أصوات شبان الضواحي وغالبيتهم من العرب المسلمين ومن الأفارقة المسلمين. كما قامت المنظمات اليهودية الأوروبية بشن هجوم عنيف على اليسار المتشدد، واتهامه بالترويج لمعاداة السامية والتحريض على الإرهاب. وقد تم تجييش عدد مؤثر من الكتاب ومن الصحافيين الفرنسيين، وبعضهم من أصول عربية، لكي "يُفنّدوا" خطاب اليسار المتشدد ويمارسوا بحقه لغة الاقصاء والتنديد.
أمام هذا الموقف اليساري، اغتبط العرب والمسلمين بحمولته وأشادوا بأهدافه. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه ويخشى أن يُساء فهمه: هل إن أضفى اليسار المتشدد على خطابه البعد المحلي المطلوب، مستندًا إلى برنامج جدي وطموح يمتلكه فعلاً، مبتعدًا بعض الشيء عن حصر نضاله، أو شبه حصره، بالتصدي للسياسة العدوانية الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، سيكون في موقف أقوى فرنسيًا وأوروبيًا يُتيح له أن يدعم عمليًا ـ وبعيدًا عن الخطابات ـ قضية عادلة وإنسانية كالقضية الفلسطينية؟
المواطن الفرنسي البسيط، وفي خضمّ أزماته الاقتصادية، يسأل نفسه عمّا إذا كان هو بحاجة فعلاً أن يتم التركيز على إدارة حكومية فاشلة لملف خارجي، أم هو ينتظر أن يكلمه من يسعون إلى صوته عن مشاكله اليومية الحقيقية؟ إن تبني رموز حزب فرنسا الأبية للقضية العادلة هو مثقال شرف يحسب لهم. بالمقابل، وفي السياسة كما في الحياة، فالزائد عن الحد قد ينقلب إلى الضدّ.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها