لعلّ هذا الجنوح مستغرب عند فئة من اللبنانيين، وإن لم يكن مستغربًا في سلوك الإسرائيليين، لأن إسرائيل تحسب قتلى عملياتها العسكرية كافةً مجرد أضرار جانبية. وهي لم تحترم مرةً في تاريخها مبدأي التمييز بين المدنيين والمقاتلين على أرض القتال، والتناسب بين الضرورات العسكريّة لأي عملية، وحجم الأذى الذي تُلحقه بالمدنيين. بات جليًّا أن إسرائيل وأصدقاءها، ومن تحرجهم أو تبتزّهم، لا يقيمون وزنًا يُذكر للقانون الدوليّ الإنساني الذي يُضمر قيمًا صارت كونية ويُفترض بالدول أن تقرّ بصلاحها في كل مكانٍ وظرف.
وليس التساهل مع إسرائيل ، في تذرعها بالدفاع عن النفس وعدم احترامها للقانون الدوليّ الإنسانيّ، محكومًا بصعوبة التحقّق من خرقه، بل مثلاً عن المعاملة الاستثنائيّة الّتي تحظى بها إسرائيل. وكأن ما يصحّ على سواها من الدول والمجموعات المسلّحة لا يصحّ في حالتها، ويظهر هذا الأمر في المواقف المتردّدة إزاء مذكرات التوقيف الصادرة عن المدعي العام في المحكمة الجنائيّة الدوليّة بحقّ نتنياهو وغالانت، وفي التجاهل والتناسي للتدابير الاحترازيّة والرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدوليّة.
ولا يغيّر في كل ذلك شيئًا، التباين حول مجرى الحرب نفسها. لا في بعض بلدان العالم وحسب، بل بين اللبنانيين أنفسهم. ويعود التباين في أصله إلى أهداف الحرب الإسرائيلية إياها. فإن قالت إسرائيل أنّها تخوض حربًا ضدّ حزب الله.. ما انفكت تهدّد بحربٍ على لبنان وعلى "أصوله" كما يُقال أحيانًا. ثمّ أنّها لا تخوض معارك عسكريّة ضدّ حزب الله في ميدانٍ معين، بل ترى لبنان كلّه بمثابة ميدان. فلا تقتصر حربها على جسم حزب الله العسكريّ بل تشمل أعضائه وعائلاتهم وجيرانهم وجيران جيرانهم والمهجّرين ومن استضافهم. وتدور الحرب على المدن والقرى، من غير اعتراف بحصانة المسعفين والمستشفيات وعددٍ من المؤسسات والمواقع الأثرية.
لهذا فإن الحرب، وإن كانت حربًا على حزب الله في المقام الأوّل، فهي حربٌ على اللبنانيين أيضًا. وإذا شاءت الجغرافية الطائفيّة، ومعها بعض الخيارات السّياسيّة، أن تكون بقية الأنحاء اللّبنانيّة أكثر أمانًا من سواها، تبقى الحرب في حدّها الأدنى، حربًا على فئة واسعة من اللبنانيين وتصيب أكثريتهم بالأذى المباشر وشبه المباشر.
وليس اتساع مجال الحرب وتعاظم آثارها المدمّرة مجرد عرض يبقي على الجوهر كما هو. فذاكرة المؤسستين العسكريّة والسّياسيّة في إسرائیل قويّة وكلاهما ينظران إلى لبنان بعين الريبة في أحسن الأحوال، وبعين الإزدراء في معظم الأحيان. والأمثلة على ذلك كثيرة نأخذها من أفواه المسؤوليين الإسرائيليين أنفسهم، ومن كتابات صحافييهم المطلعين ومن شهادات دبلوماسيين أجانب عرفوا ما يكنّه هؤلاء للبنان من مشاعر عدائيّة.
من جهتهم، لا تبدو ذاكرة بعض اللبنانيين يقظة بالقدر نفسه. ربما شغلتهم مشكلات الحاضر وهموم المستقبل عن استعادة الماضي. كما أنهم، إضافة إلى ذلك، مستغرقون في العداوات الداخليّة أو ينتظرون يوًما يظنونه قريبًا، تنقلب فيه علاقات القوى الداخليّة لصالحهم وعلى نحو لا رجوع عنه.
ورب قائلٍ إن هزيمة حزب الله، بعد أخطائه وارتكاباته المستهجنة في لبنان وسوريا، ستشقّ طريقًا للمستقبل أقلّ وعورةً من الّتي سلكها لبنان في العقود الماضية. لكن هذا الاعتقاد لا يعترف أن إضعاف قدرات حزب الله العسكريّة ليس بالضرورة هزيمته كحزب بات يضرب جذورًا عميقة في المجتمع اللّبنانيّ. ولا يؤيد ذلك التوهم أن لبنانًا جديدًا سيولد من تحت أنقاض الحرب الّتي ستأتي نتائج حاسمة لمصلحة فريقٍ ضدّ آخر. وكأن تغيير وجه لبنان، أیًّا كان من هوية الداعي إليه، سيأتي حسب مشتهاه.
لقد علّمتنا تجربة عام 1982 أن مآلات الحرب أبعد من نتائجها المباشرة. رأى بعض اللبنانيين، أو كثرة منهم، أن إخراج الفلسطينيين من لبنان نصرٌ لهم وأنه يعد بغدٍ لبنانيّ أفضل. إلّا أننا شهدنا، عوضًا عن ذلك، تجديدًا للحرب الأهليّة تميّز نصفها الثاني بضراوة أكبر من نصفها الأوّل. كما علّمنا غزو العراق عام 2003 أن الحديث عن عراقٍ جديد، بعد سقوط الطاغية صدام حسين، لم يحمل إلّا المزيد من الاضطراب والتفكّك والعنف والفوضى..
وكما تدعونا التجارب السّابقة، يدعونا الواقع الحاضر الذي يمتحن بلادنا وشعبنا كلّه، إلى العقلانيّة والتروي، ومعهما تعليق موقت لمشاعر العداء، بين القوى كافة، والشماتة وتوقّع الغلبة عند جهة، والتمسّك بالتفوق واللجوء إلى التخوين عند جهةٍ أخرى. ويفتح هذا التعليق بابًا أمام الحوار الحقّ في المستقبل وللمستقبل. فيكون صادقًا وشجاعًا ومتكافئًا، بخلاف ما كانت عليه جلسات السّجال أو المسايرة التي يحفل بها تاريخنا المعاصر.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها