الثلاثاء 2024/10/29

آخر تحديث: 10:46 (بيروت)

إذا انتهت الحرب مَن سيموّل السلام؟

الثلاثاء 2024/10/29
إذا انتهت الحرب مَن سيموّل السلام؟
سياسة الأرض المحروقة تسير حثيثاً (Getty)
increase حجم الخط decrease

تشير تقديرات أولية لخسائر لبنان، بسبب الهجوم الإسرائيلي الحالي، إلى أنها بلغت حتى الآن بين 20 و30 مليار دولار. الرقم بالطبع يزداد مع كل غارة أو قصف إسرائيليين، والصور التي تُبثّ تتولى قول الكثير عن التكاليف، فوق تأكيدها على تفوق آلة الحرب الإسرائيلية. وقد بات معلوماً أن وراء كل إنذار بالإخلاء دمار كبير، وصارت شائعةً التسجيلات التي تُرى فيها أبنية، بل أحياء وقرى بأكملها، تتحول إلى تراب ورماد خلال ثوانٍ قليلة. أما الأخبار الأخيرة في الإعلام العبري عن اختباء مقاتلي الحزب في الأحراش فترجمتها بدأت باستهداف الأحراش وتحويلها إلى جرود، أي أن سياسة الأرض المحروقة تسير حثيثاً، بعدما جُرِّبت حتى أقصاها في الحرب على غزة.

لا تثير أرقام الخسائر اهتماماً واسعاً في زمن الحرب، ومن المفهوم أن يتغلّب ما هو ملحّ لجهة التساؤل عن نهايتها على أي اعتبار آخر. إلا أن إنهاء الحرب لن يستند إلى كونها شراً يجب التوقف عن ارتكابه، فهناك أهداف معلنة تريد إسرائيل تحقيقها، أو ربما تحقيق ما هو أدنى من المعلَن، وهناك أيضاً ما يعلنه الحزب وطهران، وما لا يعلنانه. في كل الأحوال، يصعب تصوّر نهاية للحرب من دون الاتفاق على اليوم التالي.

البديل عن الاتفاق على اليوم التالي هي حالة تموت فيها الحرب سريريّاً، من دون الإعلان عن نهايتها. لدينا مثال ساخن، فالحرب على غزة منتهية لجهة استنفاذ أغراضها، وعدم الاتفاق على اليوم التالي هو ما يحول دون صفقة تعيد الرهائن الإسرائيليين وتضع خاتمة الحرب. الحديث هو عن أكثر من سنة لحرب شديدة في رقعة ضيقة جداً، وبوحشية غير مسبوقة. لكنّها قابلة للاستمرار، ولو بوتيرة منخفضة جداً، ولو أحياناً لإثبات أنها مستمرة لا أكثر.

لنا، إذا أخذنا الخسائر اللبنانية معياراً، أن نتوقع الحجم المروّع للخسائر في غزة. جدير بالذكر أن كمية المتفجرات التي أُلقيت على غزة تجاوزت، بعد شهور قليلة، تلك التي ألقاها بشار الأسد وحلفاؤه على السوريين منذ اندلاع الثورة، وهذا مؤشّر آخر على القوة التدميرية الهائلة المستخدمة في الحرب الإسرائيلية الحالية، المؤشّر الذي يحكي عن الخسائر الاقتصادية، بخلاف الأرقام المتعلقة بالخسائر البشرية. للاستئناس، نشير إلى الجوار، حيث كانت تقديرات دولية قديمة قد أشارت إلى أن مجمل الخسائر السورية بلغ حوالى 500 مليار دولار.

العالم الذي يُنتقد بشدة لعدم اكتراثه بالخسائر البشرية الباهظة هو أشدّ انتباهاً إلى الجانب الاقتصادي، بل هو الأشد تأثيراً به إلى جانب الحسابات الجيوسياسية. على سبيل المثال، لا يخلو الحديث عن اليوم التالي في غزة من بند إعادة الإعمار، والدول المرشّحة أكثر من غيرها لتمويل إعادة الإعمار لديها حسابات متضاربة تعيق صفقة التسوية، أو تساعد نتنياهو على إعاقتها ولو بلا قصد.

نستطيع أيضاً الاستعانة بمخرجات مؤتمر باريس الأخير لدعم لبنان، حيث تمخّض عن مساعدات مدنية بقيمة 800 مليون دولار، وهو رقم يخسر الاقتصاد اللبناني ما يعادل نصفه كلَّ يوم بموجب التقديرات الأولية للخسائر منذ بدء الهجوم الإسرائيلي. وعطفاً على الأرقام المتدنية لمؤتمر باريس، لا نستطيع توقّع حماسة لإعادة الإعمار من جهات قادرة على الدفع، ما لم يأتِ لها اليوم التالي بمكاسب سياسية، أو ما لم يحافظ لها على مكاسب سياسية سابقة. مثلاً، من الصعب توقع أن يحظى الجنوب اللبناني بالرعاية الإيرانية السابقة، إذا انسحبت منه نهائياً قوات الحزب وهيئاته على النحو المطروح لتنفيذ القرار 1701.

ومن الضروري جداً الانتباه إلى أن الصورة القديمة الرائجة عن كرم بعض المانحين لم تعد موجودة، خصوصاً تلك الصورة عن دول الخليج المتلهّفة لتمويل الاستقرار، بلا أي مطلب آخر. أما فيما يخص صورة الغرب، القادر على الدفع عندما تقتضي مصالحه، فهذه أيضاً لم تعد دقيقة. لأن قدرة الغرب على الدفع تراجعت كثيراً في السنوات الخمس الأخيرة، على خلفية خسائر جائحة كورونا ثم الخسائر الناجمة عن الحرب في أوكرانيا، بينما تشهد دول الغرب صعود اليمين المتطرف والشعبوي، والاثنان يدعوان إلى الانكفاء والكفّ عن تقديم المساعدات.

في السنوات العشر الأخيرة على نحو خاص، صار واضحاً انعدام الميل دولياً إلى تسويات نهائية في البؤر الملتهبة هنا وهناك. لدينا في المنطقة العديد من الحالات التي تشكّل معاً نموذجاً بقواسمها مشتركة، ففي سوريا واليمن وليبيا والسودان ثمة جبهات قتال تشتعل أحياناً وتبرد أحياناً أخرى، من دون حسم لأحد الأطراف، ومن دون سعي القوى المتصارعة إلى إبرام تسوية نهائية.

الحديث عن القوى المتصارعة هو في المقام الأول عن القوى الدولية والإقليمية التي تقف وراء الأطراف المحلية، ففي سوريا مثلاً هناك تواجد للولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا وإسرائيل. السبب الأهم لامتناع التغيير هو عدم اتفاقها، ثم لم يعد ممكناً فصل الساحة السورية عن ساحات أخرى تشتبك فيها القوى المذكورة، كلها أو بعضها، بدءاً من اليمن وصولاً إلى أوكرانيا. أي أن ترابط الساحات، ولو على نحو غير مباشر أو منظور، لا يفعل حالياً لصالح أيّ منها، وهذه تكاد تكون مؤخراً القاعدة العامة.

يزيد في تعقيد ما سبق أن الكلفة المباشرة للحرب تبدو أقل من التكاليف الكلية للسلام، في حال انتفت العوامل التي أدّت إلى الحرب. فالسلام لا يعني انسحاب القوى المتصارعة وترك الساحات لمصيرها، ولعل أول ما يتضمنه الخوض في تفاصيل اليوم التالي هو بند إعادة الإعمار. وإذا جمعنا إجمالي الخسائر الاقتصادية في الساحات، فالمحصّلة رقم فلكي مؤلف من آلاف مليارات الدولارات، وهذا الرقم يمثّل تحدياً كبيراً أمام السلام حتى مع توافر الإرادات لتحقيقه.

تفيدنا اللوحة الكاملة لأضرار الحروب في توقّع ردود الأفعال إزاء كلّ منها على حدة، فكارثة في لبنان، وقبلها في غزة، هي من ضمن حسابات دولية مثقلة بأثمان باهظة للعديد من الحروب. المانحون المتوقَّعون هم أنفسهم على امتداد هذه الساحات، وإمكانياتهم محدودة قياساً إلى المطلوب، فوق أن أولوياتهم قد لا تطابق أولويات المتضررين. وفي كل الأحوال، لا يُنتظر منهم تقديم ما يتناسب مع حجم الأضرار في غياب مؤشّرات صريحة وقوية على إحلال السلام.

التفكير المجرّد يقود إلى الاعتقاد بأن السلام يبقى هو الأقل كلفة على المدى البعيد، فضلاً عن كونه الأكثر إنسانية، لكن الواقع يشير إلى مسار مختلف تماماً. عالم اليوم هو الأشدّ خراباً منذ الحرب العالمية الثانية، واشتعال جبهاته يذكّر بالحروب الصغيرة التي أدّت إلى اندلاع تلك الحرب، وما ليس سارّاً في التذكير أن القوى الكبرى استفادت من الدرس بحيث تعثر على العديد من الخيارات بين السلام والحرب الكبرى.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها