السبت 2023/06/03

آخر تحديث: 07:33 (بيروت)

أمس حدثت "خناقة" في سوريا

السبت 2023/06/03
أمس حدثت "خناقة" في سوريا
increase حجم الخط decrease

بدافع الفضول على الأقل، يستطيع متابعُ الإعلام ملاحظة اختفاء الكتابات السورية المعارضة على خلفية مصالحة الرياض مع الأسد. فالإعلام المموَّل من الأولى غابت عنه النبرة التي كانت سائدة خلال قرابة دزينة من السنوات، وإن بتدرجات. والإشارة إلى التدرجات تتقصى التباين بين الكتّاب، وتتقصى أيضاً التراجع في حدّة الخطاب ضد الأسد منذ شاعت الأخبار عن لقاءات علي مملوك "رجل مخابرات الأسد" خلال أكثر من زيارة إلى السعودية بوساطة روسية.

قبل ثلاث سنوات أو أكثر، توقف آخر المنابر السورية المموَّلة على نحو غير مباشر من الرياض، وفي تلك الأثناء كانت هناك محاولات من الدولة المضيفة لهيئة التفاوض من أجل التعديل في تركيبتها، وقد نجحت في نيل رضا بعض المعارضين الذين يريدون كسر الاحتكار التركي للمعارضة، من دون ربط التطورات بلقاءات علي مملوك. وكان الإعلام المموَّل من الإمارات قد سبق وغيّر لهجته تجاه الأسد، عطفاً على الأسبقية في التطبيع مع الأسد، وعلى عدم وجود قطيعة وعداء حادّين أصلاً كما هو حال الرياض.

قيل وسيُقال الكثير في موضوع التطبيع العربي مع الأسد، وفي نتائجه السياسية التي قد تكون متدنية أو شبه منعدمة. أما نتائجه على الصعيد الإعلامي فيمكن لأي هاوٍ العودة سنوات إلى أرشيف الجهات المطبِّعة ومقارنة ما مضى بالحاضر، ومهما قلّل البعض من شأن هذا التغيير يبقى مؤسفاً جداً، لأنه يضعف من الحضور الإعلامي للقضية السورية وتطوراتها لدى قرّاء العربية. ومع خروج هذه القضية عن التأثير الفعلي للعرب، تزداد أهمية الشقّ الإعلامي كتعويض عن قلة الحيلة السياسية، وحتى كتعويض عن تدنّي مستوى الحريات السياسية بشيء من الحريات والتوازن الإعلاميين.

تستطيع قوة المال التعويل على كتّاب مستعدين لمجاراة السلطة، وللدفاع عن مواقفها في الأمس واليوم والغد. بل تستطيع التأثير على كتّاب سوريين معارضين، إذ يُضطر البعض منهم إلى مجاراة المنبر الذي اعتاد النشر فيه بشروط مختلفة. ثمة قائمة ممنوعات جديدة تفرضها الرقابة، فالصحيفة التي كانت تستخدم تعبير "نظام الأسد" على صفحتها الأولى لن تقبل به الآن من ضمن مقالة رأي، ولن تقبل حتى بتعابير حيادية مثل "عودة الأسد إلى الجامعة العربية"، لأن المطلوب هو القول "عودة سوريا إلى الجامعة"، ولا بأس في الإشارة إلى مصدر القرار فيها بردّه إلى "دمشق" على النحو الذي يُشار فيه إلى عواصم صنع القرار عموماً.

وتستطيع قوة المال استقدام كتّاب عالميين لا علاقة لهم بشؤون المنطقة، ليكتبوا في قضايا تخص بلدانهم، أو في قضايا كونية. هكذا يشتري المال مكانةً لمنابره يصعب التشكيك فيها، ويُظهر ليبرالية تتوقف عند تناول أخبار الديموقراطيات. وبينما يبدو ذلك واقعياً، بالتغاضي عن أحوال بلدان المنطقة ونقل أخبار الحراك السياسي في بلدان ديموقراطية، فإن الواقعي لا يبقى بلا وظيفة إذ يكرّس القسمة بين عالمَيْن وكأنها من طبائع الأمور، وهي رغم كونها أولاً تعبيراً عن نوايا "حسنة" بين الحكّام تصبح في النهاية رسالةً إلى كافة شعوب المنطقة، لا إلى الذين ثاروا على الأسد فحسب.

سيكون من المحاباة وصفُ هذا التراجع الإعلامي بالنكوص إلى ما قبل الربيع العربي، فهو نكوص إلى ما قبل عقود، إذا استخدمنا معايير الإعلام الخليجي لا العالمي. نذكّر بأن الإعلام الخليجي، المرئي والمكتوب، شهد مع بداية تسعينات القرن الماضي تغييراً إلى الأفضل على صعيد الحريات، بل صار هذا محور التنافس. وبصرف النظر عن الربيع العربي، يقتضي المنطق المزيدَ من الحريات الإعلامية في زمن شيوع وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تتدفق المعلومات مع صعوبة في ضبطها أو منعها، وهذه الفجوة الشاسعة بين الإعلام ووسائل التواصل بمثابة وصمة للأول وما يمثّله من سلطة سياسية ومالية. إلا أن المفارقة لن تتوقف عن الفعل، فمن جهة هناك معرفة متاحة يتعذّر منعها، ومن الجهة الثانية هناك كبت وتعتيم من غاياته منع المعرفة من التسرّب إلى الواقع.

يذكّر عمل الإعلام المتصالح مع الأسد، ومع كل مصالحة من هذا النوع، بطرفة شائعة عن مغالاة الرقيب العثماني في طور نهاية السلطنة. فأيامها أتى خبر الثورة البلشفية وانقلابها على حكم القياصرة، وحذفَ الرقيب العثماني كافة الكلمات التي تحمل معنى الثورة أو التمرد والمعاني الأخرى المرتبطة بالسياسة، ليصدر عنه أخيراً الخبر الذي يُسمح بنشره ونصّه: أمس حدثت خناقة "مشاجرة" في روسيا. ولا نبالغ في القول أن أقصى ما يذهب إليه الإعلام العربي المعني بات في أحسن الأحوال على غرار القول "أمس حدثت خناقة في سوريا"، مع تفضيلٍ واضح لعدم ذكر "الخناقة" كلما أمكن ذلك.

لو اقتصرت المصالحة على السياسة بأضيق مستوياتها، لكان هناك تفهّم لمقتضياتها وأسبابها حتى لدى شريحة من المعارضين السوريين، ورغم تفرّد الأسد بالعديد من الجرائم التي ارتكبها في حق السوريين فهو ليس أول طاغية يحظى بالتطبيع معه. المشكلة الأكبر هي في العقلية التي تكافئ الطاغية بالتطوع لمساعدته في التعتيم الإعلامي على جرائمه؛ العقلية التي تقاطع وتصالح بتبسيط شديد، بينما السياسة هي فن الممكن والتعقيد والتركيب معاً. التبسيط نفسه سيكون طارداً المعارضين السوريين، لأن أصحابه غير قادرين على السياسة المزدوجة التي لطالما اعتبرت نقيصة غربية في الإعلام العربي السائد.

وتكرار القول أنها خناقة، في سوريا أو في أي بلد استبدادي آخر، لن يكون مدعاة للتصديق. قد يلقى شيئاً من النجاح فيصدّقه "أو يتظاهر بذلك" البعض، في حين ستغضب غالبية الذين يرون في التعمية أو التضليل إهانةً لعقولهم قبل ضمائرهم. إهانة العقول على هذا النحو لا تهين عقول السوريين وحدهم، فهي موجَّهة لعموم المتلقّين، ولا يُستثنى منها أقرب المستهدَفين بالإعلام. ولا عزاء للسوريين في كونها كذلك؛ لا عزاء لهم بأن النظر إلى كارثتهم بوصفها "خناقة وانتهت" يُنذر مستقبلاً بأحداث عديدة من الوزن نفسه، وبأن إعادة بلدان المنطقة وإعلامها ما يزيد عن أربعة عقود وراءً سيجعل استحقاق أواخر 2010 ماثلاً أمام الجميع.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها