الأربعاء 2023/05/31

آخر تحديث: 07:30 (بيروت)

اقتلاع مقابر القاهرة

الأربعاء 2023/05/31
اقتلاع مقابر القاهرة
increase حجم الخط decrease

تعيد مجريات السياسة في مصر، نفسها، في داوئر مغلقة، أو بالأحرى في مسار حلزوني يهبط إلى أسفل باستمرار. في العام 2020، ثار سخط واسع على وقع أخبار تتعلق بهدم السلطات لعدد من المقابر في منطقة منشية ناصر، في ما يعرف بجبانة المماليك، وذلك بغية تنفيذ تعديلات في التخطيط الحضري لقلب القاهرة التاريخية، بقصد تحسين السيولة المرورية. وقيل حينها إن عمليات الهدم قد تلحق بمقابر عدد من الشخصيات البارزة في التاريخ المصري الحديث، على رأسها طه حسين.

ومرة أخرى، هذه الأيام، تشرع السلطات بإزالة عشرات المقابر بمنطقة جبانات حي الخلفية الأثرية. وفي هذه الحالة أيضاً، تطاول عمليات الاقتلاع مدافن لجمع من أعلام السياسة والثقافة، يقال إن من بينها مقبرة محمود سامي البارودي، وهو أول رئيس حكومة بعد الثورة العُرابية ورائد مدرسة الأحياء الشعرية.

هكذا يلف الزمن السلطوي في دوائر. تشبه أخبار اليوم أخبار الأمس، وكأن لا فكاك من تلك الحلقة المغلقة. ما يسري على السجناء في محابسهم، تدوير القضايا وتمديدات فترات الحبس الاحتياطي، في ما يعرف بسياسات الأبواب الدوارة، يسرى على من في الخارج، يطاول الأحياء كما الموتى. يسقط الجميع في دوامة الشيء ذاته، وتغدو السياسة غرفة لصدى الصوت، للصوت ذاته. في ذلك التكرار، ثمة إشارة إلى الأبد، كما تخيلته ميثولوجيا العذاب الأخروي. وفي محاولة التصدي له، عجز عن أن يمنع المرء نفسه من قول الشيء ذاته، أن يكرر نفسه حد الثرثرة أو حد الإجهاد الذي لا يجدي معه غير اللجوء إلى الصمت، فحينها وللمفارقة يصبح الاستسلام هو طريق المقاومة الوحيد.

لا تحتكر الدولة، العنف وحده، بل أيضاً تحديد المصلحة العامة، ومن ثم فرضها على عموم المواطنين. تبرر تلك المنفعة ذات الطبيعة المشاعية المفترضة، أفعال الاستثناء ضد الأفراد، نزع الملكية والهدم والاستيلاء. تحت حكم السلطوية، يمكن للاستثناء أن يصير القاعدة، وبلا كوابح تضبطه أو ترشد عنفه، تنطلق جرافات البيروقراطية لتقتلع ما تجده أمامها، وتمزق في طريقها نسيج المدينة وحيوات أهلها. ويغرق أي اعتراض في متاهات التعريف القانوني، هل المقابر المهددة بالإزالة تقع في نطاق الآثار؟ أو هل هي من التراث المعماري المتميز؟ هذا أيضاً تحتكره الدولة، تحديد الأثري، ذاك الواقع في نطاق التاريخ وما يقع خارجه، ومن ثم تعيين القابل للمحو والتدمير والجدير بالحماية.

تقف المقبرة على الأرضية المزدوجة للشخصي وللعام. تطالب الدولة أصحاب المصلحة، أي أهالي الراحلين، بصكوك ملكية مدافنهم، وإثبات سلسلة من الحيازة القانونية قد تتجاوز المئتي عام. طلب مثل هذا، لا يتجاوز التسويف، بهدف إبطال الحق في ما هو عائلي وحميمي. لكن ما يبقى هو الحق العام. فالمدفن، كما هو علامة في خريطة المدينة تربط بين الحياة وما وراءها، فهو نقطة على مسار التاريخ تتعايش به الجماعة جنباً إلى جنب مع ماضيها وذاكرته، بالمعنى المادي والمحسوس كما بالمعنى المعنوي.

في عرف السلطوية المشبعة بالنيوليبرالية، تُختزل المدينة في نقاط للنشاط الاقتصادي، مساحات للإنتاج وللسياحة وللتبضع، تربط بينها مسارات للحركة الكثيفة يمرر عبرها رأسمال المال والعمالة والبضائع والمستهلكين. بحسب ذلك المخطط، تتحول المدينة إلى مجرد طرق سريعة متعددة الحارات وطبقات من الجسور وشبكات معقدة من الأنفاق تخترقها من كل جهة، وما عدا هذا يُعدّ فائضاً، بل وعوائق يجب اقتلاعها وتسويتها بالأرض.

رفع المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، دعوى على مجلس الوزراء أمام القضاء بخصوص أعمال الهدم. وأصحاب المصلحة المباشرة توجهوا بالشكاوى للجهات المعنية وللإعلام. أما المعنيون بالأمر على أنه شأن عام، فتقاطر بعضهم على منطقة المقابر، لإلقاء النظرة الأخيرة على ما لن يعود موجوداً، أو لحفظ ذاكرته في صورة فوتوغرافية شاركوها مع غيرهم. وفي محصلة تلك الأفعال جميعها، على رمزيتها، يتبدى أثر مما هو عام، العام بوصفه حميماً، والحميم بوصفه عاماً، والرغبة في الدفاع عن الحق فيهما معاً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها