الخميس 2023/05/11

آخر تحديث: 16:27 (بيروت)

سوريّة ولبنان في مستهَلّ الانتداب: صوَرٌ من كتابٍ مَنْسِيّ(1)

الخميس 2023/05/11
سوريّة ولبنان في مستهَلّ الانتداب: صوَرٌ من كتابٍ مَنْسِيّ(1)
الجنرال غورو في دمشق العام 1920
increase حجم الخط decrease
سنةً بعد سنةٍ أو شهراً بعدَ شهرٍ، لا تنفكّ تنمو في رحاب الشبكة مكتبةٌ تجمعُ المتعةَ إلى الفائدة هي "المكتبةُ الدبلوماسيّة الرقميّة" وترعاها وزارةُ الخارجيّة الفرنسيّة ويُنْشَرُ فيها مختارات من مجاميع الوثائق الشاسعة التي تحتويها مراكزُ المحفوظات التابعةِ لهذه الوزارة. وإذ نقول "مختارات" لا نرمي إلى الإزراء بحجم ما نُشرَ إلى الآنِ بل إلى التنويهِ بجسامةِ المهمّة وفداحةِ ما تقتضيه رقمنةُ المجاميع بأسرِها (إذا كانت واردةً في مخيّلة القائمين بالمشروع) من وقتٍ وجهودٍ وموارد. ولعَلّ رقماً واحداً يغني عن سواه للإيحاءِ بهذا كلّه وهو أنّ المحفوظَ من هذه الوثائق الدبلوماسيّة في مركز نانت وحده يشغلُ من الرفوف ما يبلُغُ طولُه الإجماليُّ 31 كيلومتراً!

هذا ولا يستغني الباحثُ في المرحلةِ الانتدابيّةِ، على الخصوصِ، من تاريخِ سوريّة ولبنان عن التجوالِ بين المراكز المختلفة: الكي دورسي وفانسين ونانت، إلخ، ومؤخّراً لا كورنوف الذي أريدَ له أن يكونَ الأَجمعَ والأحدثَ تنظيماً. وما تحتويه هذه المراكزُ يفيض قروناً عن مرحلةِ الانتدابِ المحدودةِ ويفيض عن سوريّة ولبنان، بطبيعةِ الحالِ، إلى سائرِ أنحاءِ الأرض.

وفي كلّ كتابٍ جادٍّ يتناولُ الانتدابَ، تقريباً، نقعُ على صورٍ لوثائقَ وعلى شواهدَ من وثائقَ محفوظةٍ في هذا أو ذاك من تلك المراكز. إلى ذلك جرَتْ محاولاتٌ أوسعُها نطاقاً محاولة المؤرّخ عادل إسماعيل لنشر مجاميعَ من هذه الوثائق متعلّقةٍ بلبنان، ولكنّها لم تدرك، على الإجمالِ، سويّةً من الشمول تغني الباحثَ المدقّقَ عن مباشرةِ التنقيبِ بنفْسِه عمّا يخصُّ موضوعَه من موادَّ في مَظانِّهِ من المجاميع المفهرسةِ، المحفوظةِ في المراكز.

على أنّ ما أراه جديراً بالتنويه، وهو ما لا يلتفتُ إليه الباحثون والموثّقون عادةً، هو ما يتكشّف لك، عند استطلاعِ القسمِ المتعلّقِ بالانتدابِ من هذه المكتبةِ الرقميّةِ الآخذةِ في التوسّع، من انطوائها على عددٍ باتَ معتبَراً من الكتُبِ المعاصرةِ لتلك المرحلةِ. وهي، مع كونِها نُشِرت ووُزّعَت، في تلك الأيّامِ، قد باتت منسيّةً كلّيّاً في أيّامنا. فلا نقعُ لها على ذكرٍ – على حدِّ عِلْمي – في لوائحِ المراجعِ المضمومةِ إلى كتبٍ لمؤرّخينَ متأخّرينَ تناولوا تلك المرحلة. هؤلاءِ بحثوا في المحفوظاتِ عن الأوراقِ والتقاريرِ وما جرى هذا المجرى ولم تستوقفهم الكتب! وهذا مع كونِ الكتبِ تنطوي، في الغالب، على موادّ مختلفةٍ، من حيثُ طبيعةُ مضامينها، عن تلك التي تتيحُها المراسلات.

وقد كان أنّي وقعتُ، بين العناوين المنشورةِ، على كتابٍ طابت لي قراءتُه إذ وجدته منطوياً على كثيرٍ من العِبَرِ الواشيةِ بعقليّةِ المحتلّ الفرنسيّ، في مَطالعِ انتدابه على سوريّة ولبنان، وعلى كثيرٍ أيضاً من المعطيات الدالّة على أحوالٍ للبلدينِ ومواقفَ لأهاليهما، في تلك الأيّامِ، تبدّلت لاحقاً ولم يعبأ المؤرّخونَ المتأخّرونَ باستعادتها. ذاك هو كتاب الكاهن أميل وترلي É. Wetterlé الصادر في باريس، سنةَ 1924، وفيه وقائعُ رحلةٍ متلاطمةِ الأحداثِ قامَ بها مؤلّفهُ، في عدادِ وفدٍ، في خريف سنة 1922 إلى سوريّة ولبنان. تلك مرحلةٌ من المراحل التي قد يجوزُ وصفُها ب"الرماديّةِ"، فهي لم تُخَلِّف صُوَراً تُمَيّٰزُها في الذاكرةِ العامّةِ ولم تستوقفْ كثيراً مؤرّخينَ استوقفَتْهُم مراحلُ أخرى عاصفة: 1918-1920، مثلاً، أو 1925-1927، أو أيضاً 1935-1937 أو 1941-1945...

عنوانُ الكتاب "في سوريّة مع الجنرال غورو"، وهو يوحي، أوّلَ ما يوحي، أنّ اسمَ سوريّة كان لا يزال في حينِهِ مشتملاً في المخيّلةِ الفرنسيّةِ (وفي غيرها...) على جملةِ البلادِ التي نُذِرَت للانتداب الفرنسيّ. وهذا على الرغمِ من تقسيمِ تلك البلادِ، في غدواتِ ميسلون، إلى دولٍ و"بلادٍ" عدّةٍ كانت دولةُ لبنان الكبير واحدةً منها.

هذا أيضاً على الرغمِ من حرص اللبنانيّينَ البارزِ (الذي أشعروا به المؤلّفَ) على استقلالِهم. غير أنّ العلويّين (وقد حصلوا هم أيضاً على "بلادٍ" لهم أي على ما يشبه الدولة) لم يَجدْهم المؤلّفُ أقلَّ حرصاً على استقلالهم هذا (وعلى الانتدابِ معه!) من اللبنانيّين، وإن فاتتهم الأواصرُ التاريخيّةُ التي شَدّت هؤلاءِ إلى فرنسا. بخلاف ذلك، لا تشتملُ سوريّة هذه، في مخيّلة وترلي، على أيّةٍ من البلادِ الآيلةِ إلى الانتدابِ البريطانيِّ بما فيها فلسطين. هذا كلّهُ في حينٍ كان فيه انتدابُ الدولتينِ العظميينِ، وقد تقرّر منذُ سنةِ ١٩٢٠ في مؤتمرِ سان ريمو، ينتظرُ إبرامٌهُ إقراراً من عصبةِ الأممِ الوليدةِ لم يلبث أن حصل. وهذا بعد أن كانَ الوضعُ القائمُ منذ سنة 1918 وضعَ احتلالٍ متحرّكٍ يلوح في أفقهِ انتدابٌ لمّا تُسْتَكْمَلْ شرعيّته.

ولعلّ توقيتَ الرحلةِ التي يروي الكتابُ وقائعَها لم يكن بلا صلةٍ بالظرفِ المستتبِّ في سوريّة ولبنان في ذلك الخريف. كان فيصل قد أُخرجَ من دمشق ثمّ رَدّه البريطانيّون إلى بغداد. وكانت كلُّ مقاومةٍ للاحتلالِ الفرنسيِّ وللانتدابِ الزاحفِ قد أُخْمدت.. إلى حينٍ: في مدنِ الساحلِ، في الشمال السوريّ، في جبل عامل، في بلاد العلويّين، إلخ. إلى ذلك كانت سلطةُ الاحتلالِ قد وَجدَت من الوقتِ ما يكفي لاجتراحِ أنظمةٍ وإنشاءِ مؤسّساتٍ لل"دول" و"البلادِ" الجديدةِ ولتنفيذِ مشاريعَ يختصُّ أظهَرُها بالمواصلاتِ ولتنمية المدارس الحاظيةِ برعايتِها (وبعضها مهْنيّ) وهي تعتمدُ الفرنسيّةَ وتنشُرُها، إلخ. ولعلَّ غورو وجَد أنّ هذا كلَّه باتَ جديراً بالعرضِ على من يحتاجُ إلى كسبِ ولائهِم وتأييدِهم ومن يَطْمعُ في استدراجِ مشاركتِهم بالمالِ والخبرةِ في العمليّة الجارية. كان الظرفُ مؤاتياً لهذا العَرْضِ أيضاً بعد أن أنهت معاهدةُ أنقرة المواجَهةَ بين القوّاتِ الفرنسيّة وجيشِ مصطفى كمال فأتمَّت بذلكَ تأمينَ الطريقِ وإبعاد تلك القوّاتِ عن كلّ دورٍ قتاليٍّ ناشطٍ في شرقِ المتوسّط. فلم يبقَ لها إلّا دورُ فرضِ الأمنِ والسكينةِ في المناطقِ الخاضعةِ للاحتلال.

على أنّني أستحسِنُ التنويهَ، قبْلَ الإلمامِ بمحتوى الكتابِ، بطرفٍ من سيرةِ مؤلّفه الظريفِ الأب وترلي. فهو، حين قام بهذه الرحلةِ، نائبٌ عن الألزاس في الجمعيّة الوطنيّة الفرنسيّة... وكان، حتّى استعادةِ فرنسا للألزاس، بعدَ الحربِ العالميّةِ، نائباً (معارضاً) عنها في البرلمانِ الألماني! وهو، في الرحلة موضوعِ الكتابِ، عضوٌ في وفدٍ ضخمٍ متعدّدِ المشاربِ، دعاهُ المفوّضُ السامي (الذي كان وترلي يعرفهُ من أيّامِ الحربِ على جبهةِ شمبانيا) للقيامِ بجولةٍ في بلادِ الانتداب. ومن الوقائعِ، يتبدّى أنّ وترلي هو الشخصيّةُ الثانيةُ في هذا الوفد بعد نائبٍ آخر هو أحد مديري الجمعيّة العموميّة ويُدعى بيار لوناي، رئِسَ الوفدَ بصفتِه ممثّلاً الحكومة.  عليه يبدو وترلي متردّداً بين الإشفاق على لوناي والسخرية منه وهو ينوّه تكراراً بكثرةِ ما اضطرَّ الرجلُ إلى ارتجالِهِ من خطبٍ، في محطّاتِ الرحلةِ، فيما اقتُصِر نصيبُ الكاهنِ الشخصيِّ من المراسمِ على ثلاثةِ قداديسَ أو أربعة!

يُفْرِدُ وترلي جانباً لا يستهان به من صفحات كتابه للرحلةِ البحريّةِ المعقّدةِ التي جاءت بهِ على متنِ الباخرةِ بيار لوتي من مرسيليا إلى بيروت. ولهذا التلبّثِ ما يسوّغُه في السياسةِ والتأريخِ فضلاً عن إغراءٍ بالوصفِ يستولي على السائحِ حين يتوقّفُ في محطّاتٍ من قبيلِ نابولي وبومبايي أو مالطة... ناهيكَ بأكروبول أثينا ومعالمِ إستانبول التي لم تكن قوّات الحلفاء المحتلّةُ قد أخلَتْها بعد. من مسوّغاتِ التلبّث تلك أنّ سفينةَ الوفدِ ترسو في إزمير غداةَ الحريق الهائلِ الذي أتى على أحياءٍ برمّتها من المدينة وذلك مع انسحاب اليونانيّين منها عسكراً ومدنيّينَ ودخولِ الأتراكِ الكماليّينَ إليها. بالاستنادِ إلى من تيسّرَ من شهودِ العَيانِ، يميلُ المؤلّفُ، وهو يعاينُ مأساةَ اللاجئينَ من يونانيّينَ وأرمنٍ، إلى تبرئةِ الأتراكِ من تبعةِ الحريقِ ومن المقتلةِ التي صحبَتْهُ آخذاً بالدعوى القائلةِ أنّ سياسةَ الأرضِ المحروقةِ إنَّما كانت خطّة اليونانيّين الذين أحرقوا كلَّ شيءٍ غادروهُ وهم ينسحبونَ، لا في إزمير وحدَها، بل في سائرِ البقاع التي كانوا واضعين يدهم عليها من غربِ الأناضول كلِّه.

صَكُّ البراءةِ هذا الذي يحصُلُ الأتراكُ عليهِ من وترلي لا يبدو بريئاً من وَقْعِ المودّةِ التي استُجِدّت بين مصطفى كمال وحكومة فرنسا فأثمَرَت معاهدةَ أنقرة، ولا من وّقْعِ انحيازٍ راحَ الإنكليزُ (الذين يكرهُهم وترلي كُرهَه للألمانِ تقريباً) يُظْهِرونه لملكِ اليونانِ وجيشه المهزوم. هذانِ العاملانِ يحملانِ المؤلّفَ على ما يشبِهُ الطمسَ لجانبٍ من السياقِ الذي تمَّ فيه الانسحابُ اليونانيّ من إزمير: ألا وهو سياقُ الحربِ التركيّةِ اليونانيّةِ التي كانت قد اسْتَوَت، في الواقعِ، مسرحاً مفتوحاً لتبادُل الفظائعِ لم يصلْ إليهِ وترلي إلّا عشيّة إسدالِ الستار... في كلّ حالٍ، يقف هذا الشاهدُ، عن كثبٍ أيضاً، على الفصلِ المتأخّرِ من النكبةِ الأرمنيّة. ومن ذلك أنّ باخرةَ الوفدِ التي تُقِلُّ من إزمير ثلاثمائةٍ من اللاجئين الأرمن إلى إستانبول المحتلّة (وهذه كانت لا تزالُ تؤَوّي مئاتِ الألوفِ من اليونانيّينَ والأرمنِ) تعود إلى إزمير ثانيةً، بعدَ زيارتِها إستانبول، لتحملَ على متنها إلى بيروت عدداً من هؤلاءِ اللاجئينَ أيضاً...
(يَتْبَع) 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها