الجمعة 2023/04/07

آخر تحديث: 07:20 (بيروت)

"النار بالنار".. فرصة للاختلاف عن السائد تاهت بمنتصف الطريق

الجمعة 2023/04/07
"النار بالنار".. فرصة للاختلاف عن السائد تاهت بمنتصف الطريق
مسلسل النار بالنار
increase حجم الخط decrease

النزول الرائع للدرون من سقف بيروت إلى زقاق مسلسل "النار بالنار"، مسرح الحبكة أوحى بأن شيئاً مختلفاً عن السائد من المسلسلات يحدث هنا. سرعان ما يتأكد هذا الظن بينما الممثلون والممثلات يمثلون فعلاً، والحوار جريء وحقيقي، ومفهوم، أو يكاد..
الحقد السوري اللبناني المتبادل يحصل هنا، وبوضوح. المسلسل إذن "واقعي". هكذا يعد، على الأقل بعد المواجهة بين السورية واللبناني بسبب لافتة "ممنوع تجوال السوريون…"، بنصها المتين والأداء الاستثنائي لكاريس بشار وجورج خباز. مواجهة رسخت آمالاً أكبر من المسلسل، قبل الانتباه، مع تتالي الحلقات، إلى أنه دراما رمضانية، تلامس الواقع، لكن ليس تماماً.ثمة خطوة إضافية أخيرة لم تحدث، لأن الدراما العربية لا تتحملها. الذهاب في الواقع إلى أقصاه، بدل إقحام الأكشن ورؤساء العصابات. هذا الحي، "السرور"، أين يقع؟ الخليط السوري اللبناني، أين تتطور قصته، في النبعة أو برج حمود أو برج البراجنة؟ المسلمون في المسلسل نعرفهم. سارة (زينة مكي) التي كانت محجبة واسمها بتول وهربت من زوجها المعنف. عزيز (جورج خباز) العالق في اختطاف أبيه منذ الثمانينيات، نعلم رأيه في السوريين، لكن، هل هو عوني أم قواتي؟ هل هو مسيحي أصلاً؟ عمران (عابد فهد)، المرابي اللبناني السوري، ما دينه، وما هو انتماؤه السياسي؟ لا نعلم. كل الشخصيات تصل إلى منتصف البئر وتعلق هناك. شخصيات من دون محتوى حقيقي، اليساري محبط فقط. وابن المخطوف ابن مخطوف فقط.. وهكذا. خلطة مخيبة للآمال، بنصف واقعية ونصف تنميط، ونصف بناء درامي ونصف جرأة.
"النار بالنار" حاول تخطي الخلطة المعممة على المسلسلات، وسرعان ما فشل. القصة محشوة بعناوين أكثر مما تحتمل. العنصرية. العنف الأسري. التشدد الإسلامي. الحرب الأهلية. النزوح السوري. الحرب السورية. زمن السوشال ميديا. التشدد الإسلامي، الإحباط اليساري.. خلط الاجتماع بالسياسة، مع أنه عاجز بطبيعة الحال عن تناول عناون سياسي أو طائفي واحد كما هو لأن الدراما العربية لا تحتمل.
المسلسل وجد مَخرجه السياسي في شخصيتين على طرفي نقيض. المتشدد الإسلامي (طوني عيسى) واليساري (طارق تميم). هذان وحدهما يحملان هوية سياسية واضحة، لأنه من السهل تشريحهما. المتشدد يمكن التصويب عليه من الجهات كافة، وتحميله إثم معظم الشرور التي تحدق بالحي. واليساري غير الموجود أصلاً كطرف سياسي، لا في لبنان ولا في سوريا، ولا في أي مكان آخر، ولا نحمل عن صورته، إلا رومانسية الأحلام بتغيير العالم، وصور تشي غيفارا وزياد الرحباني، وحبه للكتب. وهو، حتى في السكر والقمار، لا يؤذي أحداً غير نفسه، وغالباً ما يقف إلى جانب الأخلاق حتى ضد صديقه العنصري. اليساري يمثل خيراً اجتماعياً وفكرياً مطلقين، يواجه بهما الشر المطلق للمتشدد. البقية الباقية من الشخصيات شبه مجوّفة. لا خلاف سياسياً في ما بين سوريي الحي، ولا بين لبنانييه. القبضايات لا صلبان موشومة على أجسامهم، أو سيوف بحدين. لا شيء. حي لبناني لا هوية طائفية له. حي مستحيل.
مجدداً، المشكلة في المسلسل كانت أنه وعد في البداية بواقعية ما أكثر مما استطاع أن يقدم لاحقاً. هناك الكثير من المحظورات التي تمنع تسمية الأشياء كما يجب أن تسمى، اللبنانيون بطوائفهم وأحزابهم، والسوريون كذلك، بطوائفهم ومواقفهم كما هي إن من النظام أو من المعارضات. لا يحتمل تعقيداً يحوله إلى دراما حقيقية بدل أن يكون كما هو الآن، وجبة خفيفة مسليّة ليس واجبها الدخول في تعقيدات التاريخ القديم بين السوريين واللبنانيين.

الحوار المكتوب بحرفة عالية لا يكفي وحده لتغطية القصور في الحبكة الضعيفة التائهة. كلما تقدم المسلسل حلقة، سقطت من السماء شخصيات وأحداث ركيكة كأنها ارتجلت فجأة لزوم مطّه أكثر. هكذا، تتذبذب المشاهد حرفياً بين ممتاز ورديء، أحياناً بين مشهدين متتاليين.
الحبكة الثانية الموازية، والناجحة إلى حد ما، تدور رحاها على السوشال ميديا بطلها الكاتب رامي كوسا الذي أعلن أن المخرج محمد عبد العزيز غيّر العمل الذي كتبه وقدم منتجاً مختلفاً. لا يتبرأ الكاتب تماماً من نصه. لكنه يعترض على إضافات هنا وحذف هناك والنفخ في أدوار ثانوية على حساب أخرى. نحن، إزاء عالمين مختلفين، واحد في المسلسل، وآخر ينشره الكاتب بصفته الأصل، لكن الفرق ليس جوهرياً. والرأي بالمسلسل يكون على ما هو وليس على ما كان يفترض أن يكون. وكما هو، تبدو الشخصيات عالقة في أغنية "هوتيل كاليفورنيا"، لا تتطور ولا تتغير ولا تقدر على الهروب من الفندق الشهير. تكرر مشاهدها بلا ملل، مرة بعد مرة، بلا أي بعد ثالث لهذه الشخصيات المسطحة التي تبدو كما لو أنها تؤدي وظيفة رسمية هي نفسها من التاسعة حتى الخامسة. كل الفرص للذهاب عميقاً في حدث تبتر فجأة. مريم خلعت حجابها بسبب حجة بلا أي منطق (أن تبدو لبنانية، على أساس أنه ليس من لبنانيات محجبات)، وتابعت حياتها بعادية مطلقة كأن شيئاً لم يكن. هكذا حقاً تخلع امرأة حجاباً لازمها معظم عمرها؟ عزيز (جورج خباز) يقتصر وجوده على أزمته مع خطف والده منذ الثمانينيات. اليساري محبط على مدار الساعة. وحدها شخصية عمران تبدو مركّبة وقلقة، تسائل نفسها في ضياع هويتها بين سورية ولبنانية، وبين شريرة وطيبة. لكن لا وقت لديها للتفكير في مثل هذا الأمر طويلاً، فقد اكتشفت فجأة، في الحلقة 15 أنها تتاجر أيضاً بالأعضاء البشرية. لا بأس، لزوم التشويق والإثارة، شتتا عملاً بدأ واعداً، وها هو يتدهور حلقة بعد حلقة ليعود في آخر المطاف مسلسلاً لبنانياً سورياً مشتركاً، ميزته اليتيمة براعة الحوار وممثلين يمثلون فعلاً، ولأول مرة لا يمضون معظم وقت العمل صامتين، إما يحدقون في بعضهم البعض، أو يتفرغون للنظر في سقف الغرفة، بانتظار انتهاء المخرج من التقاط تعابيرهم البلهاء وإنهاء اللقطة.
"النار بالنار" كان فرصة جيدة لطرح صوت جديد ورؤيا مختلفة عن الدراما العامة الموضّبة، لكنها ضاعت. خسارة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها