الثلاثاء 2023/02/07

آخر تحديث: 14:37 (بيروت)

الزلزالُ طبيعةً وسياسة

الثلاثاء 2023/02/07
الزلزالُ طبيعةً وسياسة
يَسوءُ المنكوبَ السوريَّ أن يبدو الزلزالُ وكأنّهُ يحجبُ مسؤوليةَ المسؤولينَ عن فداحةِ آثارهِ (Getty)
increase حجم الخط decrease

من بعيدٍ، في الأقلّ، أي من جهةِ غير المنكوبين، يبدو الزلزال (وكلّ ما جرى مجراه من النوازل الطبيعيّة) حاجباً لنكباتٍ أخرى، بشريّةِ المصدرِ، سياسيّةِ القوام، على الخصوص. يبدو صادّاً بغيوم غباره وتلال ركامه، وبقتلاه وجرحاه، قَبْلَ هذا كلّه، كلّ جهدٍ لإبقاءِ النظرِ مصوّباً على ما كان جارياً أو حاصلاً قبلهُ بزمنٍ طويلٍ أو قصيرٍ وعلى ما أنشأتهُ حوادثُ متسلسلةٌ وأوضاعٌ قائمةٌ من بنى استقبالٍ نزلَ الزلزالُ عليها وفيها ومنحتْهُ معانيَ لم يكن له من سبيلٍ إليها بما هو حَدَثٌ طبيعيّ.

حتّى أنّ بنى الاستقبالِ هذه لا تتقدّمُ، عندَ إنعامِ النظرِ في النكبةِ المنسوبةِ إلى الطبيعة، على أنّها سبيلُ هذه الأخيرةِ الوحيدُ إلى دائرةِ "المعنى" ومخرجـُها المٌتاحُ من عـَماءِ المادّةِ وسديمِ اللاغائيّة وحسْبُ. بل إنّ هذه البنى تتبدّى محدِّداً لا يستهانُ بفاعليّته لأحجامِ الكوارثِ أيضاً، شريكةً للزلزالِ، على نحوٍ ما، في المسؤوليّةِ عن سقوط كلّ ضحيّةٍ تسقط، عن تداعي كلّ بناءٍ يتداعى، إلخ. ليست قوّةُ الزلزالِ على مقياسِ ريختر وحدَها ما يُحْدثُ هذا كلّه. فإنّ الزلزالَ يفعلُ فعلَهُ مقترناً بصنائعَ بشريّةٍ ماثلةٍ على الأَرْضِ، بحصائلِ أفعالٍ سَبَقَتْهُ وأخرى واكبَتْهُ أو تخلّفت عن مواكَبَتِهِ أو تعذَّرَ حُصولُها لمواكَبَتِه: صنائعَ وحصائلَ لبِثَت  مُحْدقةً بالضحايا وبالناجين ومعيّنةً لحظوظِ النجاةِ ولاحتِمالِ عدمِها أو مشتركةً، إلى هذا الحدّ أو ذاك، في التعيين المُشارِ إليه.

تلازُمُ الطبيعيِّ والبَشَرِيِّ أو السياسيِّ هذا واقعةٌ محقّقةٌ في كلِّ حالةٍ من حالاتِ "الكوارثِ الطبيعيّة". وهي توجِبُ التحيّةَ لما وُجِدَ حاصلاً أو مُهَيّأً من نمطِ استقبالِ ناجعٍ وإمكاناتِ مجابهةٍ للكارثةِ أو توجِبُ الشجبَ لما تكشّفَ من نقصٍ في هذا كلِّهِ أو من إساءةٍ لاستِعمالِهِ أو من عجْزٍ أو إعراضٍ عن استعمالِ المتاحِ منه. وإنّما يكون الشجبُ شجباً لما هو بشريٌّ ولا محلَّ لَهُ في وجهِ الطبيعةِ ويفتَرَضُ أن يكونَ بتوجّهِهِ إلى البَشَرِ مفضياً إلى الحساب.

وإذ نقولُ بحضورِ البشَريِّ أو السياسيِّ حُكْماً في كلّ كارثةٍ نَصِفُها بالطبيعيّةِ لا يمْنَعُ هذا التعميمُ من إبرازِ الصفةِ الفاغرةِ (أو الفاجرةِ) لهذا الحضورِ في النكبةِ التي أنزَلَها الزلزالُ الأخيرُ بالسوريّين. وذاكَ أنّ هذه النكبةَ عصفَت، على الخصوصِ، بمدُنٍ ومناطقَ كانت قد نزلت بها، في مدى اثنتي عشرةَ سنةً مَضَت، نوازلُ قصْفٍ وقتْلٍ وخطفٍ وتهجيرٍ وتشريدٍ ودمارٍ لمقوّماتِ العيشِ، على اختلافها، لم تُمْتَحَن بما يعادلها بلادٌ أخرى بَعْدَ الحرب العالميّةِ الثانية. وهو ما يعني أنّ الزلزالَ تستقبلُه بنىً متهاويةٌ، في مضاميرِ الإنقاذِ والإغاثةِ والإسعافِ والاستشفاءِ، إلخ،... فيزيدُ تهالُكُها كثيراً من احتِمالِ هلاكِ الجريحِ ويقلّلُ من حظوظِ المدفونِ تحتَ الأنقاضِ في الخروجِ حيّاً ويحولُ دُونَ العائلةِ التي شُرّدت أو فقدَت مصدَرَ معاشِها والحصولِ على ما تواجهُ به النكبةَ المستجَدّة. وهذه، في الحالةِ السوريّةِ، تُضاعفُ، على الأرجحِ، نكبةً مقيمةً وقد تكونُ قاضيةً على ثِمارِ ما بذلَتهُ العائلةُ من عَناءٍ وصبْرٍ وما احتملَتْهُ من شقاءٍ، في أعوامٍ مضت، لمداراة هذه الأخيرةِ والاحتيالِ لمواصلةِ العيشِ على رغْمٍ من عواقِبٰها المقيمة.

هذا ولا ريبَ – ما دُمْنا قد ذَكَرْنا العائلات – أنّ عائلةً سبقَ أن فقدَت مُعيلاً، قُتِلَ أو اعتُقِلَ وفُقِدَ أثَرُهُ، أو هي تمزّقَت من جَرّاءِ التهجيرِ أو انتَهَت لاجئةً في الجنوبِ التركيّ أو في الشمالِ أو الغربِ السوريَّينِ تجدُ نفسَها أضعَفَ حَوْلاً بِما لا يُقاسُ في مواجهةِ النازلةِ الجديدة. ويُضاعِفُ الشجَنَ، على نحوٍ ما، أن يكونَ الزلزال بَدا وكأنّه قد تَبِعَ اللاجئينَ السوريّينَ إلى جنوب تركيّا فوجدوا أنفسَهُم – بَعْدَ مخاضِ عذابِهِم الطويل – شُركاءَ في نكبةِ الزلزال أيضاً للأتراكِ الذين بقيَ نصيبُهُم هو الأعظم، بطبيعةِ الحالِ، من المحنةِ المشتركة.

على صعيدٍ أوسَعَ وأعْمَقَ، تضرِبُ نكبةُ الزلزال، شأنُها شأنُ غيرِها من النكباتِ "الطبيعيّة"، بمزيدٍ من الفداحةِ فقراءَ الناسَ والجماعاتِ المجرّدةَ من الحمايةِ الاجتماعيّةِ، إن لم يكن لشيءٍ فلإقامَتِهم في المباني المتهالكةِ إمّا لتقادُمِها وإمَّا لهشاشة هياكِلٰها أصلاً واكتظاظها وافتِقارِها إلى مقَوِّماتِ السلامة. والاشتراكُ في المسؤوليّةِ واضحٌ، في هذا النطاق، ما بين سلطةِ الدولةِ ومنطقِ رأسِ المال: في طلبِ هذا الأخيرِ للربحِ وركوبِه مركبَ الفَسادِ لأجْلِهِ وفي تقصيرِ السلطةِ العامّةِ أو خضوعٰها وفي تقَبُّلٰها الإفسادَ أيضاً. ذاك ما قد يُزَيِّنُ توصيةَ من يستطيعُ إلى ذلكَ سبيلاً باجتراحِ مقياسِ ريختر اجتماعيٍّ سياسيٍّ لوَقْعِ الزلازلِ وما جرى مجراها من نكباتٍ بما هو (أي الوٓقْعُ) تابعٌ لبُنى الأنظمةِ الاجتماعيْةِ السياسيّة وما تتمخّضٌ عَنْهُ من بنى استقبالٍ للنكباتِ المذكورةِ وأنماطِ سلوكٍ حيالٓها وإمكاناتٍ متباينةٍ لمُواجهٓتِها.

بَيّنٌ، مِن بَعْدُ، أنّ ما ذكرناهُ من مٌحَدِّداتٍ لمفاعيلِ الزلزالِ لا يجتَرِحٌها الزلزالُ نفسه وإنّما هي حصائلُ لأفعالِ فاعلِين. وهي، في سوريّة، حصادٌ لسلوكِ النظامِ الأسديِّ وشُرَكاهُ في حربِ سوريّةَ المديدة، بل أيضاً قَبْلَ هذه الحربِ، بمعنىً ما. وهي حصادٌ أيضاً لسلوكِ المليشياتِ المتحكّمةِ في جانبٍ من المناطقِ التي ضربـها الزلزال، في شمال سوريّةَ الغربيّ، ولسلوك الأوصياء الخارجيِّينَ عليها. هذا كلُّهُ معلومةٌ مَعالِمُهُ وظاهرةٌ خيوطُهُ فلا يحتاجُ أمْرُهُ إلى تفصيلٍ أو تذكير. وإنّما يَسوءُ المنكوبَ السوريَّ أو المتضامنَ معهُ أن يبدو الزلزالُ وكأنّهُ يحجبُ مسؤوليةَ المسؤولينَ عن فداحةِ آثارهِ وعن فَداحةِ ما سَبَقَهُ، فيما الأَوْلى بالزلزالِ أن يستَوي كاشفاً للسابِقِ واللاحقِ من موبِقاتٍ عصَفَت بسوريّة وأهْلِها وإصبَعاً أخرى تُشيرُ إلى الفاعلين.

(بلتيمور في 6 كانون الثاني 2023)

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها