الأحد 2023/02/05

آخر تحديث: 09:27 (بيروت)

المنطاد الصيني والهستيريا الأميركية

الأحد 2023/02/05
المنطاد الصيني والهستيريا الأميركية
increase حجم الخط decrease

تحول الإعلان عن رصد منطاد صيني يعبر الطبقة العليا من الغلاف الجوي فوق الولايات المتحدة الى بازار سياسي واعلامي فوري لامس حد الهستيريا العامة التي اججها الإستغلال الكيدي اليميني للطعن في إدارة الرئيس جوزيف بايدن وسط "صيحات حرب" تداخلت فيها الشعبوية والديماغوجية بملفات داخلية صرفة، ولم يفلح تبرير بكين المصحوب بالأسف، ولا تطمينات البنتاغون عن السيطرة الكاملة على الموقف في تهدئة الهرج الذي كانت أولى ضحاياه الزيارة المرتقبة لوزير الخارجية انتوني بلينكن الى الصين والتي كانت مقررة نهاية الأسبوع.

بدأت القصة مساء الخميس، عندما بثت شبكة (إن. بي. سي) في نشرتها الرئيسية خبرًا مفاده ان وزارة الدفاع الأميركية رصدت منطاد تجسس صيني يعبر الغلاف الجوي على ارتفاع 60 الف قدم (18.300 متر) فوق ولاية مونتانا شمال غرب أميركا ويتجه ببطء شرقًا نحو المحيط الأطلسي بعدما قطع الاف الكيلومترات فوق ولاية الاسكا وغرب كندا. وقد اكدت مصادر وزارة الدفاع الخبر وقالت أن المنطاد الذي يتجاوز قطره 30 مترًا ويحمل لوحات شمسية ومجسات معدنية (كالتي تحملها الأقمار الصناعية) بالطول نفسه، دخل المجال الجوي الكندي يوم الثلاثاء ويخضع لمراقبة لصيقة من القوات الجوية الأميركية التي تعمل على تشويش معداته لمنعه من التقاط اية صور حساسة، وأن القيادة اتخذت قرارًا بعدم اسقاطه فوق اليابسة تحسبًا لأضرار محتملة على الأرض.

وفيما أكدت المتحدثة بلسان البيت الأبيض كارين جان-بيار أن الرئيس بايدن إطلع على الأمر منذ الثلاثاء ووافق على عدم تدمير المنطاد، واعلن البنتاغون أن وزير الدفاع لويد اوستن، الموجود في الفلبين، لإنهاء الترتيبات اللازمة لإنشاء قواعد جوية أميركية فيها لتطويق الصين استراتيجيًا، ترأس اجتماعًا عن بعد لقيادة الأركان لمتابعة الموقف، سارعت الحكومة الصينية وبعد انتهاء ساعات الدوام الى اصدار بيان أوضحت فيه ان المنطاد غير مأهول وكان في مهمة مدنية تتعلق بدراسة المناخ والطقس قبل أن يخرج عن مساره وتقذفه الرياح الى المجال الجوي الأميركي معربة عن اسفها لذلك، لكن البنتاغون سارع الى رفض الرواية الصينية مؤكدًا أن مهمة المنطاد هي التجسس.

صباح الجمعة افاقت أميركا على ما يشبه الهستيريا الجماعية، خبر المنطاد يحتل مقدمات ومتون نشرات الإخبار وتفرغت شاشات المحطات الإخبارية لتغطية متواصلة تعرض صور المنطاد وتنقل تغطيات مباشرة تتنقل بين البيت الأبيض ومقري وزارتي الخارجية والدفاع وتستضيف الخبراء والمحللين والمعلقين، فيما ضجت منصات التواصل الاجتماعي كافة بأخبار المنطاد ومداخلات السياسيين الكيدية التي استهلها الرئيس السابق دونالد ترامب بتغريدة على منصة "تروث سوشال" التي يملكها من أربعة كلمات بالأحرف الكبيرة (SHOOT DOWN THE BALLON)  (أسقطوا المنطاد). تلقف الجمهوريون والمحافظون تغريدة ترامب كإشارة انطلاق وتسابقوا خطيًا وشفهيًا الى مهاجمة إدارة بايدن واتهامها بالتقاعس تجاه الصين.

ومع أن البنتاغون حرص قبل انتشار الخبر، على ابلاغ زعماء الحزبين الديمقراطي والجمهوري في مجلسي النواب والشيوخ بملابسات الموقف واطلعهم على الخطوات التي تقرر اتخاذها للإمساك بالمنطاد والكشف عليه في الوقت المناسب، أطلق النواب والشيوخ الجمهوريون العنان لأقلامهم والسنتهم في دعوات كيدية عالية النبرة تكيل الإتهامات لإدارة بايدن بالتخاذل وتدعو الى تحقيقات برلمانية ومحاسبة المتقاعسين، وبلغ الأمر بالسيناتور الجمهوري المنتخب حديثًا في أوهايو جاي. دي. فانس أن ينشر صورته وهو يحمل بندقية حربية ويتخذ وضع الإستعداد لإطلاق النار، فيما تعمد الإبن الأكبر للرئيس السابق دونالد ترامب جونيور انتهاز الفرصة للدفاع عن انتشار السلاح في ايدي المواطنين داعيًا الحكومة "العاجزة" الى السماح للناس باستخدام أسلحتهم الفردية لإسقاط المنطاد، وسايره في تلك الدعوة عشرات المسؤولين المحافظين المنتخبين.

تصدر خبر المنطاد الصفحات الأولى لكبريات الصحف فحل في ثلاثة أخبار رئيسية على الصفحة الأولى لـ "نيويورك تايمز" مع مانشيت رئيسية تقول: "الغضب من المنطاد الصيني يؤدي الى ازمة دبلوماسية" كما نشرت تحليلين اخباريين، اما "واشنطن بوست" فزادت على اخبار الصفحة الأولى ثلاث مقالات رأي، ولم يكن اهتمام الصحف الأخرى والمواقع الإخبارية أقل. واستعادت المقالات والتعليقات أجواء الحرب الباردة، فيما ذهب البعض منها الى نبش ذكريات أكثر إثارة تعود الى الحرب العالمية الثانية حين استخدمت اليابان مناطيد تحمل رؤوسًا مشتعلة بهدف احراق الغابات في الساحل الغربي لأميركا. أدى هذا الجو الضاغط الى اعلان بلينكن بنفسه أنه اتصل بنظيره الصيني وانغ لي وابلغه بإلغاء الزيارة التي كان في صددها الى بكين، وعبّر له عن استيائه من التصرف غير المسؤول والإنتهاك الواضح لسيادة أميركا والقانون الدولي مما قوّض الغاية من الزيارة. 

الملفت في كل هذه المعمعة أن أميركا التي تمتلك 750 قاعدة عسكرية في أكثر من 80 دولة، وتخصص مئات الأقمار الصناعية والطائرات المتطورة وأحدث التقنيات للتجسس على العالم قاطبة، وتجاهر منذ انتهاء الحرب الباردة بخصومتها الإستراتيجية للصين والتي تحولت في عهد بايدن الى عقيدة جديدة، تتصرف وكأن المنطاد خدش حياءها، أو كأن التجسس من الكبائر والمحرمات، وهي في ذلك تخلط الكيد الداخلي المتعاظم بالإستثنائية الخارجية المتآكلة وتبحث عن سلطة اخلاقية لم تتحقق لها حتى عندما انفردت في استقطاب العالم بالجملة.  

 

            

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها