الثلاثاء 2023/11/21

آخر تحديث: 08:21 (بيروت)

لا تعتاد المشهد؟

الثلاثاء 2023/11/21
لا تعتاد المشهد؟
increase حجم الخط decrease
كأنّك في حلم. تمضي بين الصور والأصوات من دون شعور واضح. كأنك بينهم، لكنك لست هناك. يفصلك عنهم زجاج سميك آمن يحميك من نحيبهم ورذاذ دمهم.

كأنك إلى هذا الحد عاجز. كلما رأيتهم فتحت صفحة الكترونية بيضاء وبدأت بالكتابة. كأنك إذا كتبت ترد الذنب الذي يخنقك، كأنك تنجز شيئاً بالكتابة.
لستَ صغيراً ولا بريئاً ولا ساذجاً لكي تتفاجأ بهذه الجريمة. لستَ بسيطاً لأن تستغرب كيف تستمر هذه المحرقة من دون أن يرف للغرب أو للشرق جفن. لستَ غبياً كي تفكر أن الغرب سيكون أخلاقياً حين تصل السكاكين إلى المولودين بجلد أقل شأناً. لستَ غبياً لأن تستغرب كيف أن المظاهرات لا تعم على مدار اللحظة البلاد العربية، على الأقل العربية. لستَ طيباً كفاية لأن تعتب على البشرية. في عتب كهذا إيمان أبله. ولن تعوّل على السماء كي تقتص من القاتل. هي في صمتها المعتاد. لا تتدخل حتى لماماً. لا تتدخل أبداً.
ماذا تريد أن تقول الآن؟ تريد أن تقول إنك لن تعتاد على المشهد؟ هنيئاً لك أنك لا تعتاده. كيف تمنع العداد اليومي من الارتفاع إذا لم تعتد ما تراه؟ كم ستصمد أصلاً؟ أنت تفيق من النوم على الصور وتتفرج قبل النوم على الصور. بينهما تمارس نهارك وتنشغل بأمورك. لستَ طفلاً يحدق في الوحش الملتصق بسقف البيت. لستَ أمّاً جالسة في كابوسها. لستَ تحاول الاتصال بهاتف صديقك كي تعرف مكانه في الركام وتخونك يداك ويخونك قلبك. لستَ هناك. انظر إليك، لديك ترف أن تجلس وتكتب عن ظلم العالم. نعم. إنه عالم ظالم. ثم ماذا؟ ثم لا شيء آخر. إنه عالم ظالم وفي العالم الظالم يسحق الضعفاء. وهم ضعفاء. أصحاب القضايا دائماً ضعفاء. ودائماً تفرض قضاياهم عليهم. يناضلون ويصمدون لأن لا سبيل آخر لديهم. لا يختارون القضية بملء إرادتهم. انظر إليهم، الآن يولدون وقد وشمت على وجوههم خمس وسبعون سنة. هذه ملحمتهم الباقية بعدما انتهت الملاحم. هذه سيرتهم الطويلة، كل مرّة تُعاد. ماذا عليهم أن يفعلوا؟ لو أن السماء تتدخل. لو أنها تفتح بابها لهم ولو موارباً كي يدخلوها آمنين ويستريحوا قليلاً وتبرد قلوبهم. لم يعد لديهم إلا أن تحضنهم السماء البعيدة، تلك التي يرسمها الأطفال فيها شمس تبتسم وغيمة بيضاء. ها أنت وصلت. أهلاً بك في درس الإنشاء. صف شعورك وأنت تتفرج على محرقة تقع خلف زجاج النافذة. صف يأسك وحزنك وغضبك. اشتم العرب واشتم أميركا إذا شئت لكن لا تخطىء في الإملاء. لا تخطىء في النحو والصرف كي تنال علامتك كاملة. اقتبس من محمود درويش. امدح شعره وصوته وسحره في الإلقاء، وقل إنهم شعب الجّبارين، مع أن كل ما كانوا يريدونه هو أن يكونوا عاديين. قلتها هذه من قبل، وأنت الآن تكرر نفسك. لماذا تكتب الآن؟ لماذا حقاً تكتب الآن؟ ما تراه أبعد من الأخلاق والسياسة والكتابة والتاريخ. ما تراه عصي على الاستيعاب، مع أنك تحاول. انظر إليك تحاول ألا تعتاد على المشهد. أنت من الصورة الأولى اعتدته لكنك لا تريد أن تعترف. من وجه الطفل الأول اعتدت المشهد، لكنك تكابر لأنك تخاف من الاعتراف بعجزك حتى عن عدم الاعتياد. هذا حالك الآن. ليس لديك إلا إن تنافق وترفع يديك إلى السماء وتتضرع لها كي تتدخل، وانت تعلم يقيناً أنها لن تفعل شيئاً. ثم غادر إلى نومك وحين تفيق صباحاً ابحث عن صورهم وشاهدهم ثم اكتب مزيداً من الإنشاء.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب