الإثنين 2023/01/09

آخر تحديث: 08:07 (بيروت)

إيران: توريط الإسلام في ما ليس له

الإثنين 2023/01/09
إيران: توريط الإسلام في ما ليس له
increase حجم الخط decrease

ثمة مسألة تتصل بما يحصل حالياً في إيران من تظاهرات واحتجاجات حول إلزامية الحجاب، وتعتبر ركيزة أساسية من ركائز فكر الإسلام السياسي الحديث والمعاصر، ألا وهي ضرورة إقامة الدولة الإسلامية لأجل تطبيق الشريعة الإسلامية. أي ربط ما جاء في الدين من أحكام وتكاليف بالحكم والسلطة، لتتخذ هذه الأحكام طبيعة سياسية إلى جانب كونها دينية، بل يكون فيها السياسي وفق هؤلاء عين الديني وبالعكس، إضافة إلى اتخاذها صفة قانونية مُلزمة تملك السلطة السياسة حق ممارسة الإكراه لفرضها على الناس، وحق إنزال العقاب لمن يخالفها أو يتمنع عن مراعاتها.

هذه مقولة عُرفت في النصف الأول من القرن العشرين بالحاكمية. كان أهم مطلقيها المفكر الهندي أبو الأعلى المودودي، الذي اعتمدها مسوغاً جوهرياً لانفصال باكستان عن الهند، بحجة أن للمسلمين طريقة عيش وانتظام خاصة يشملان كل قضايا الحياة بما فيها الدولة والحكم والتشريع، ما يحول دون أن يشارك المسلمون غير المسلمين أنظمة حكم وقوانين غير إسلامية، لما في ذلك من نقض وهتك لمعتقدهم وهويتهم. 

كانت المرة الأولى التي يتم في الزمن المعاصر اعتبار الهوية الدينية هوية قومية وسياسية لا تقتصر على العبادات والمسلكيات التقوية، بل باتت هوية شاملة وحصرية يُعرِّفُ بها المسلمُ نفسه في كل مجالات الحياة بما فيها مسائل الدولة والحكم وما يتفرع عنهما من قوانين وسياسات، التي لا بد أن تستمد جميعها صلاحيتها ومصدر مشروعيتها من الدليل الديني حصراً من قرآن وسنة وإجماع. 

نتيجة هذا الطرح، انتقلت فكرة السلطة والحكم، التي كانت تعرف بالإمامة العظمى وتندرج في الفقه الإسلامي ضمن الفروع،  انتقلت لتصبح من الأصول العقائدية، ليصبح المبحث السياسي المتعلق بشرعية السلطة ومسوغات الإكراه المشروع، مبحثاً عقائدياً، يرسم الفاصل بين دخول الإنسان في الإسلام وخروجه منه. بل بات المبحث السياسي من مباحث التوحيد الذي هو الأصل العقائدي الأول في الإسلام، لتصبح السلطة والحكم من ملحقات حاكمية الله التي يختص بها وحده. 

حين كان الإسلام ملاذاً لمسلمي الهند في إقامة كيانهم السياسي الخاص (باكستان)، كان هاجس  العرب والإيرانيين وحتى الأتراك في أوائل القرن العشرين، هو التخلص من الاستبداد، ووضع دساتير لتقييد السلطة، وإقامة نظم تمثيلية، وإطلاق الحريات، أي لبرلة الحياة العامة.  لم يطرح الإسلام حينها مشروعاً سياسياً أو فكرياً ذي خصائص متمايزة ومختلفة عن تحولات العالم، بخاصة الحداثة والديمقراطية. فالإسلام كان بنظرهم، الإصلاحيين والليبراليين معاً، صاحب السبق في تأسيس سمات الحداثة الراهنة، التي وصفها محمد عبده بأنها "بضاعتنا ردت إلينا". بل يكاد الخطاب الفكري وحتى الديني حينها يفصل بين مجالي الدين والسياسة، لتستقي مسائل السلطة والحكم تأسيساتها من مصادرها الفلسفية التي تأسست في أوروبا، وليبقى الإسلام وعاءً سيالاً قابلاً للتكيف مع أية صورة حكم وسلطة، أي سلخ السياسة والدين عن بعضهما، فالخلافة بحسب علي عبد الرازق "ليست من خطط الإسلام في شيء"، أما الوظائف الدينية فتنحصر في دائرة العلاقة الشخصية بين الفرد وربه.

هذا المزاج أخذ يتغير مع الشعور بالهوية المهددة من قبل الغرب المستمر، ومع فشل أكثر دول الاستقلال في توفير شروط الأمن والرفاه والحرية. فبدأنا نشهد ظهور مقولة الحاكمية ذات الجذور الهندية، التي لاذ بها المُضطَهَدُون المستاؤون من رداءة الواقع السياسي، لتصبح عمدة المشروع الإسلامي في المجال العربي السني، بخاصة مع كتابات عبد القادر عودة وسيد قطب ومحمد قطب في مصر. وهي فكرة، أي الحاكمية، تسربت أيضاً إلى التنظيرات الشيعية في العراق وإيران حول مسائل السلطة والحكم، بخاصة في مؤلفات محمد باقر الصدر وروح الله الخميني.

هي تنظيرات، السنية والشيعية معاً، تختلف في طرق استدلالها وأدلتها، لكنها تتفق على فكرة مركزية واحدة وهي أن الإسلام حقيقة سياسية بالكامل ولا يمكنه الاستمرار أو تحقيق أغراضه إلا بسلطة تفرض الأحكام الدينية، وتنقل التكليفات الشرعية الدينية من كونها علاقة تكليف بين الإنسان وربه، إلى علاقة آمر ومأمور بين الحاكم والمحكوم، وعلاقة إكراه وإرغام تمارسه السلطة على الفرد بعدما كان وازع التكليف الديني باطنياً وطوعياً وصادراً لغايات أخروية لا دنيوية. 

باتت الدولة أو الحكومة الإسلامية ضرورة للإسلام في زماننا، بعدما كان طوال التاريخ مكتفياً في تحقيق مقاصده بمحفزاته الروحية الداخلية وموجهاته الأخلاقية الذاتية.  وبحسب الخميني: "لا سبيل إلى وضع أحكام الشرع (الديني) موضع التنفيذ إلا بوساطة حكومة ذات أجهزة مقتدرة. فاستمرار الحكومة وأجهزتها يكون بأمر من الله، وهو ما يزال ضرورياً إلى يومنا هذا".   هذه الحكومة ليست كأي حكومة نعرفها، بل هي بحسب الخميني: "حكومة القانون الإلهي، والحاكم هو الله وحده وهو الشرع وحده لا سواه وحكم الله نافذ في جميع الناس".

إعادة الوصل بين الإسلام والسلطة، لم يكن إعادة اعتبار للإسلام في زماننا بقدر ما هو توريطه فيما ليس له، من خلال اغراقه في تعقيدات الحكم التي لم يكن الاجتهاد الإسلامي جاهزا لها أو مستوعباً لأصولها الفلسفية، وزج الدين في مستجدات السلطة المعاصرة، التي لم تكن طوال التاريخ الإسلامي ضمن اهتمامات الفقيه (السني والشيعي) أو ضمن صلاحياته.  بل هو مناقض للخلاصات والاستنتاجات التي رسخت لدى فقهاء الإسلام، وفي مقدمهم الماوردي وابن خلدون وحتى الشريف المرتضى والطوسي من فقهاء الشيعة، من أن السلطة في الإسلام خرجت من مرجعية الدين بعد تحوله إلى ملك عضوض، وأن إرجاعها إلى وصاية الدين لا يمكن أن يحصل بظروف عادية أو وفق القوانين الطبيعة، بل يتم بمعجزة أو عبر رجل استثنائي مؤيد ذي قدرات فائقة مثل المهدي المنتظر.

فشل الإسلام السياسي في المجال العربي في استلام السلطة أو إدامة حكمه وفق مبنى الحاكمية، لكنه نجح في إيران واستطاع تأسيس دولة دينية وفق مبنى ولاية الفقيه.  بيد أن هذا النظام اصطدم منذ تأسيسه بمعضلتين جوهريتين لم تحلا حتى الآن، بل لا يمكن أن تحلا.  أولهما  تحويل الإسلام إلى منظومة  أمر وإكراه خاصة، لم يكن الإسلام كدين قد تأسس عليها أو ارتهن في وجوده التاريخي لأي شكل من أشكال السلطة المتعاقبة والمتحولة والبائدة.  بالتالي تم وضع الإسلام في غير موضعه وإعادة تأويله على غير حقيقته ليتناسب مع منطق الحكم والسلطة القائمين.  ثانيهما  فرض أحكام الدين على المجتمع عن طريق القسر والإرغام، المراقبة والعقاب، الانضباط والتحكم، ظناً من أهل هذا النظام، أن في ذلك تحقيقاً لغايات الشريعة ومقاصد الدين. في حين هو تحويل لقيم الدين نفسها، من محفزات وجدانية وبواعث روحية، إلى خوف ورعب ظاهرين يخالطهما نفور وتقزز باطنيين.              

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها