الأحد 2023/01/08

آخر تحديث: 08:19 (بيروت)

ترامب يقتحم الكونغرس مجدداً

الأحد 2023/01/08
ترامب يقتحم الكونغرس مجدداً
increase حجم الخط decrease

الثانية عشرة والنصف بعد منتصف ليل الجمعة بتوقيت واشنطن، وفي جولة التصويت الخامسة عشرة على مدى خمسة أيام، تجاوزت الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب الأميركي خلافاتها وصراعاتها المفتعلة وانتخبت كيفن مكارثي رئيسًا للمجلس، بعد يوم صاخب شهد ثلاث جولات إقتراع تمكنت خلالها مجموعة صغيرة من انصار الرئيس السابق دونالد ترامب من تحويل إجراء روتيني في العادة، حيث يملي العرف السائد لأكثر من 100 سنة، انتخاب زعيم الكتلة الأكبر من الحزبين رئيسًا للمجلس في جلسة معروفة النتائج. لكن إعصار ترامب لم يمر بسلام.

في التقويم السياسي ينبغي أن يكون الأسبوع الأول من العام الحالي في جزئين؛ الأول بديهي ويتلخص في انتخاب رئيس المجلس وأداء الأعضاء الجدد اليمين الدستورية وإقرار النظام الداخلي، وهو ما جرت عليه العادة لعقود طويلة، والثاني مستجد بعد اقتحام انصار ترامب في السادس من كانون الثاني/يناير 2021، مبنى الكونغرس لمنع إتمام الإنتقال السلمي للسلطة للمرة الأولى في تاريخ أميركا، لذلك كان يوم الجمعة مهمًا لأنه يستعيد وقائع محاولة الإنقلاب التي أعدت لها إدارة جوزيف بايدن والأقلية الديمقراطية في الكونغرس ووسائل الإعلام الكثير من البرامج والفعاليات التي لم تلق أي اهتمام يذكر في التغطية الإخبارية التي انصبت على جولات التصويت المشوقة التي صعد فيها النائب الجمهوري مات غايتز الى النجومية وكاد يتعرض للكمات من زميله مايك روجرز بعدما أفشل وصول مكارثي في الجولة الرابعة عشرة.

لا يخفى على ترامب، الذي بنى مجده في الإعلام، وخصوصًا على الشاشات، أهمية المشهدية في الحياة العامة، لذلك لجأ الى الشاشة البرلمانية في مجلس النواب ومماحكاته ليطمس الشاشة التوثيقية التي تؤرخ محاولته الإنقلابية الفجة التي كشفتها لجنة التحقيق البرلمانية التي قدمت تقريرها الأخير المفصل قبل أسبوعين مرفقًا بتوصية لمقاضاة ترامب وأقرب أعوانه، وتهمّش أي برنامج اخباري أو تحليلي قد يؤثر على سمعته وهو في مستهل ترشحه الثالث للرئاسة. لذلك عمد ترامب الى استنزاف الوقت بدقة واستثارة اهتمام الجمهور بلهفة لمعرفة مصير رئاسة المجلس، واستخدم أقل من عشرين من أنصاره، وبينهم أربعة عشر من الذين اعترضوا على نتائج انتخابات 2020، نجح ترامب في تحوير الموقف كليًا، لم يعد من المحافظين والليبراليين، أنه من "الوطنيين" وغيرهم.

لكن ترامب ليس فردًا. هو حالة لا يزال رمزها، حالة الأميركيين البيض ذوي الأصول الأوروبية "الشمالية والغربية". هو أول رئيس يعبّر عن انزعاجه من المهاجرين الى أميركا وفق أصولهم، فهو يريد مهاجرين من الدول الإسكندنافية والشقر والبيض، وليس من "الدول الخرا" كما صرّح بلسانه. هو حفيد قوّاد عمل في الدعارة قبل ترحيله الى المانيا، وابن نصّاب جمع ثروته من التهرب من الضرائب، وامرأة كانت تعمل لترفيه الزبائن على البواخر السياحية. عندما ينظر الأميركي الأبيض عمومًا في شجرة عائلته الآتية من بريطانيا أو أوروبا الشمالية سيرى الكثير من الإبادة والدماء والعبودية والإجرام، وسيرى في ترامب مخرجًا اخلاقيًا لائقًا. 

لكن نجاح ترامب التلفزيوني لن يقتصر على الطمس العابر للذكرى السنوية الثانية لمحاولة الإنقلاب. ففي سعي مكارثي الذي تجاوزه حزبه عام 2015، عندما كان المرشح الأول، بسبب رعونته وتباهيه بنتائج تحقيق اللجان البرلمانية مع هيلاري كلنتون والتي حرمتها في النهاية من الوصول الى البيت الأبيض عام 2016، حاول استرضاء انصار ترامب وفق اجندتهم السياسية، وهذه الأجندة ليست تقليدية من النوع الذي يميّز بين الديمقراطيين والجمهوريين. انها أجندة يمينية متطرفة تلامس حد الفاشية. وافق مكارثي الشبق الى المنصب الثاني أهمية في أميركا على تقويض سلطاته المجلسية بالجملة وأعطى أنصار ترامب ما يريدونه من دور تشريعي يرّكز على الملاحقة القانونية لرئاسة بايدن وادارته وكل المسؤولين عن التصدي لإنتشار وباء كوفيد 19، خصوصًا مدير المعهد الوطني لمكافحة الأمراض المعدية الدكتور انطوني فاوتشي، ومساءلة المسؤولين عن الحدود الجنوبية والهجرة وملفات اللجوء، وقضايا عائلة بايدن وعائلات المسؤولين الديمقراطيين.

أجمعت كل الآراء والتعليقات على أن مكارثي سيكون أضعف رئيس مجلس للنواب بعدما تعهد للذين كانوا يعارضون انتخابه بتفويض صلاحياته التشريعية الى المتطرفين الذين حازوا على ثلاثة مقاعد في لجنة النظام الداخلي التي تبت مشاريع القوانين المقدمة لمجلس النواب المؤلفة من 13 عضوًا، أربعة منهم من المعارضة، ما يعني أنهم أصبحوا فعليًا قادرين على منع أي تشريع للأكثرية، والتزامه ببرنامج تشريعي          محسوم مسبقًا في وثيقة حملت عنوان "حزمة قواعد المجلس" يؤكد على الغاء كل الإجراءات المعتمدة في ظل الغالبية الديمقراطية الأخيرة، وسن تشريعات عقابية ضد الصين، والشروع في الادعاء على كل رموز الإدارة الديمقراطية، والتحقيق مع المسؤولين عن حماية الحدود وسياسة الهجرة، ومنع الإدارة من الإقتراض ورفع سقف الديون تلقائيًا، واعتماد الأكثرية الدستورية لفرض ضرائب جديدة، وعزل شخصيات عريقة من الحزب الديمقراطي من اللجان البرلمانية الحساسة، والأهم والأسوأ تكليف عتاة المتطرفين اليمينين رئاسة اللجان البرلمانية واللجان الفرعية المنوطة بإستنباط وتشريع القوانين.

لا جدال في أن ترامب الذي أفصحت التحقيقات الرسمية عن استخفافه وعدم اكتراثه بالقانون والأعراف، واستعداده الكامل لتحطيم كل الأنظمة من أجل تمسكه بالسلطة، تمكن عبر الإعلام الحديث من صناعة تاريخ مؤكد، ولا يزال يبني عليه للفوز بتزكية ثالثة الى انتخابات الرئاسة التي يبدو حتى الآن أنه المرشح الجمهوري لخوضها، ففي الانتخابات التمهيدية لأية انتخابات يكون الصوت الحاسم للمتطرفين، وحتى الآن يبدو ترامب الزعيم الأوفر حظًا لهم.



       

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها