الأربعاء 2023/02/01

آخر تحديث: 05:46 (بيروت)

حين تتعمق الأزمة الديموغرافية العالمية

الأربعاء 2023/02/01
حين تتعمق الأزمة الديموغرافية العالمية
نتيجة سياسات الطفل الواحد، شاخت الصين قبل أن تغتني (من الاحتفلات برأس السنة الصينية -غيتي)
increase حجم الخط decrease

بحسب نظرية مالتوس، اعتبرت الزيادة السكانية خطراً، وذلك بحكم معدلاتها المتضاعفة بوتيرة متواليات هندسية. إلا أن النظرية التي لم تأخذ في الحسبان سوى الإنتاج الزراعي، كمصدر وحيد للثروة، أثبتت هشاشتها قبل وقت طويل. فالطبيعة ومواردها ليست وحدها عامل التوازن مع الزيادة السكانية. في النصف الثاني من القرن العشرين، توافق تحسن مستويات المعيشة وارتفاع متوسطات دخل الفرد في دول الشمال الغني، مع تراجع في معدلات الخصوبة، وبالتالي انعكس تباطؤاً في النمو السكاني، وأحياناً انكماشاً في عدد السكان.

يرجع البعض تلك العلاقة العكسية إلى عوامل ثقافية ترتبط بتفتيت الرأسمالية الفائقة لوحدات الأسرة الكبيرة، وترسيخ قيم الفردية وطرائق عيش متمحورة حول الذات واللذة والاستهلاك. أما التفسيرات الاقتصادية، فتلقي باللوم على الاختلال في توزيع فوائض التراكم الرأسمالي. فجيل "البيبي بومر" أي جيل الطفرة السكانية بين العامين 1946 حتى 1964، تمتع بفوائد السياسات الكنزية، من شبكة أمان اجتماعي قوية مع سياسات توظيف مستقرة ومعاشات نهائية مضمونة. أما الأجيال اللاحقة، وفي ظل السياسات النيوليبرالية، فشهدت تقلص دولة الرفاه وبالتوازي تم تقليم حقوق العمالة. ولعل خليطاً من تلك العوامل ثقافية والاقتصادية يمكن أن يفسر العلاقة الطردية بين النمو الاقتصادي الإجمالي وتراجع عدد السكان.

لا يبقى التراجع السكاني حكراً على الشمال الغني. فقبل أسبوعين، أعلنت الصين تسجيلها أول تراجع في عدد السكان منذ ستة عقود. فآخر مرة سجلت الحكومة الصينية انكماشاً سكانياً كان في العام 1961، بنهاية "المجاعة الكبرى". التراجع بفارق 850 ألف نسمة عن العام السابق، هو على الأرجح نقطة البداية لمتوالية من التغير السكاني بالسالب، وبحسب توقعات الأمم المتحدة سيتواصل الانكماش السكاني حتى يصل إلى 110 ملايين نسمة بحلول العام 2050. ولن تقتصر تبعات التغيرات الديموغرافية الصينية على بكين وحدها، فالتكهنات المستقبلية تشير إلى أن الانكماش الصيني سيقود تباطؤاً اقتصادياً عالمياً وكذا ارتفاعاً في الأسعار معدلات التضخم في دول الشمال.

التناقص الديموغرافي ليس أزمة في حد ذاته، سوى بمعايير الاقتصاد المتمحور حول النمو، فعدد سكان أصغر يعني تراجع الإنتاجية وكذلك الاستهلاك. أما المعضلة الأكبر بالنسبة لاقتصاديات الرأسمالية فليست في التراجع السكاني، بل الشيخوخة الديموغرافية، باعتبار الرعاية الاجتماعية والصحية والمعاشات مصروفات يجب إخضاعها للتقشف بشكل متواصل في العرف النيوليبرالي، فلا يمكن اعتبار كبار السن إلا عبئاً مجتمعياً. وبالأخص مع تفتت نموذج العائلة الممتدة، وانتفاء أدوار كبار السن الاجتماعية.

والصين حالة أكثر خصوصية في ما يتعلق بالشيخوخة، فنتيجة سياسات الطفل الواحد التي اتبعها الحزب الشيوعي الحاكم حتى سنوات قليلة ماضية، وبفعل تحفيز ساعة التغيرات الديموغرافية، شاخت الصين قبل أن تغتني، ويضاعف هذا من عمق الأزمة. فالبلد الأكبر من حيث عدد السكان على مستوى العالم (قبل أن تسبقها الهند هذا العام على الأغلب) والتي ظلت قاطرة الاقتصاد العالمي في العقدين الماضيين، تتبدد صورتها كمورد للأيدي العاملة الشابة والرخيصة، لصالح صورة مغايرة تماماً، أي صورة مجتمع تقاعد يعاني الانكماش المتواصل.

بين العامين 1950 و2010، زاد عدد سكان دول الشمال نتيجة للهجرة. كان للمهاجرين، ومعظمهم من الشباب، الفضل في الحفاظ على معدلات النمو في الاقتصاديات الغنية والحفاظ على تقسيم عمري متوازن لسكانها. ومنذ العام 1990 أضحت الهجرة المصدر الرئيسي للنمو الديموغرافي هناك، ففي أوروبا شكلت الهجرة 80 بالمئة من النمو السكاني بين 2000 و2018. وفي أميركا الشمالية، شكلت الهجرة 32 بالمئة من النمو في الفترة نفسها.

بشكل مفاجئ، سجلت بريطانيا هذا العام نقصاً في الأيدي العاملة وصل إلى نصف المليون وظيفة شاغرة، ويرجح أن يكون ذلك التراجع مرتبطاً بالإقبال على التقاعد المبكر بعد وباء الكورونا. وعلى الجهة الأخرى من القنال، تجتاح المدن الفرنسية سلسلة الإضرابات والاحتجاجات المعارضة لتأخير سن التقاعد. في الحقيقة، تصل باريس متأخرة بهذا الشأن، فعواصم أوروبية عديدة سبقها في سياسات "العمل حتى الموت" ومن دون مقاومة تذكر من المواطنين.

ويمكن للهجرة أن تكون عاملاً حاسماً في موازنة التوزيع الديموغرافي والاقتصادي بين الشمال والجنوب، إلا أن دولاً مثل الصين، وكذلك اليابان وكوريا الجنوبية السابقتين في أزمتهما الديموغرافية المزمنة، لا يبدو أنها ستتبع سياسات هجرة أكثر مرونة وانفتاحاً في المستقبل القريب. وبالنسبة لأوروبا وأميركا الشمالية، فإن صعود الخطاب اليميني المعادي للأجانب يدفع بشكل متواصل لتشديد قوانين الهجرة والحد منها، من دون تقديم بدائل.

بفعل البيانات الصينية، يمكن اعتبار هذا العام نقطة تحول جذرية في الأزمة الديموغرافية العالمية، أزمة لا تعود إلى زيادة السكان عن الموارد، كما كان يخشى مالتوس، وليست بالضرورة متعلقة بالانكماش الاقتصادي أو شيخوخة المجتمعات، بل عاملها الأساسي هو السياسات العامة في دول الوفرة والإيديولوجيات التي تحكمها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها