السبت 2023/01/21

آخر تحديث: 07:49 (بيروت)

شوام وحلبية..كمّون وكزبرة

السبت 2023/01/21
شوام وحلبية..كمّون وكزبرة
increase حجم الخط decrease

لدينا انقسام تاريخي سوري ينتظر العودة بفارغ الصبر، إنه الانقسام بين الشوام والحلبية. من مظاهره المتداولة، على سبيل المثال والتبسيط، أن الشوام يطبخون المحاشي مع الكمّون، وهذا ما تأنفه الذائقة المطبخية الحلبية التي تعتمد الكزبرة المجففة، لا الخضراء الدارجة في الأطباق الشامية. الطَرْخون شاميٌ أباً عن جد، لذا لا اختلاف بين الطرفين عليه بما أن الحلبية لا يستخدمونه.

خارج الفوارق المطبخية، آخر مرة أُريدَ تظهير الاختلاف بين الجانبين كانت لمناسبة وفاة منيرة القبيسي، زعيمة ومؤسسة حركة القبيسيات، الشامية في النهاية رغم ما يُروى عن أصل قديم فلسطيني لأبيها. المشايخ الشوام عزّوا بالراحلة وأثنوا عليها، وهو ما لم يرُقْ لإسلاميين حلبيين رأوا في سلوك نظرائهم تغليباً للعصبية الشامية على العداء للأسد، وعلى العصبية الإسلامية. يُفهم من الجدل الذي دار أن ثناء الشوام على الراحلة كان في المقام الأول دفاعاً عن الشاميات اللواتي انضوين في التنظيم، لا عن رئيسته تحديداً التي بسبب أبيها ثمة شكوك حول أصالتها الشامية ومجيئها من "خارج السور".  

من هذا الموقف المحابي للقبيسيات، المتّهَمات بموالاة الأسد، يطلّ اختلاف قديم بين حلب ودمشق، يختزله الحلبية عادةً بوصف الشامي بالـ"تيمورلنكي". تقول الرواية الحلبية المبسَّطة المختزلة أن الشوام سايروا تيمورلنك وفتحوا له أبواب مدينتهم، ولم يتعظوا بأخبار فظائعه السابقة في المدن التي اقتحمها، ومنها حلب التي دخلها عنوة. ثمة تلميح أشدّ خبثاً بسبب المرويات عن كثرة وفظاعة حالات الاغتصاب التي أوقعها عسكر تيمورلنك بالشام، وبموجبه يفقد الشوام أصالتهم حتى إذا تباهى بعضهم بكونه من "داخل السور".

في العديد من محطات التاريخ لم تكن المدينتان تتبعان السلطة ذاتها، وتعبير دولة الشام أو دولة حلب ليس غريباً على الأسماع. إثر خروج الفرنسيين من سوريا انقسمت الكتلة الوطنية إلى الحزب الوطني وحزب الشعب، يمثّل الأول منهما الشوام، بينما يقود الحلبية الثاني. لا نريد بهذه الإشارة التدليل على أن هذا الانقسام من طبائع الأمور، لكن من المفيد الإشارة إلى مرويات رأت في صراع الخمسينات بين القطبين أفضل فرصة لانقلابيي الجيش، وصولاً إلى انقلاب البعث بوصفه تحالفاً ريفياً-طوائفياً، ومن المعلوم أن هجرة الأرياف إلى المدينتين تفاقمت بدءاً من الستينات، مع التنويه بأن أبناء المدينتين في تنافسهما لا يرون ضمناً مدينة أخرى خارج سورَيْ الشام وحلب.

قد نجد في أي بلد ديموقراطي فلكلوراً مماثلاً من التنافس، ومن عداء قديم، بين مدينتين. مثلاً، بعض الباريسيين يرون فرنسا بوصفها باريس والآخرين، وهناك فرنسيون متطرفون يأبون العيش في باريس لأنها بزعمهم لم تعد فرنسية بعد احتلالها من قبل الغرباء. لكن هذا التماثل يبقى شكلياً، حتى مع محاولات اليمين المتطرف والشعبوي استثماره ضد المهاجرين، بخلاف العصبويات السورية التي تعمل بفعالية داخلياً، لا ضد "الأغراب" أو المهاجرين فحسب.

حسب ما نصادفه كلما اقتضت المناسبة، كأنّ هناك فرقة باطنية هي الشوام من داخل السور، وفرقة باطنية أخرى من الحلبية الذين داخل السور، بحيث لا يعرف إلا أعضاء كل فرقة على حدة أغوار الملّة التي ينتمي إليها. ثم إن السور مغلق بإحكام، بحيث يستحيل على أي راغب الانضمام إلى تلك الصفوة، وسيبقى هو وذريته موصومين بأنهم من خارج السور. أفضل دليل على هذا ما يسوقه أبناء الصفوة أنفسهم بالتأكيد على عجز سلطة الأسد عن النفاذ إلى مجتمعهم، رغم سيطرتها "الشكلية!" على المدينتين، ورغم قبضتها المخابراتية الأخطبوطية.

من الطريف أن السلطة ذاتها، على الأقل خلال السنة الأولى، روّجت للثورة عليها بوصفها ضد تحالفها مع المدينتين، فضلاً عن تحالفاتها الطائفية هنا وهناك خارج السور، ويمكن الجزم بأنها صادفت نسبة غير قابلة للقياس من النجاح. إلا أن نسبة أخرى من النجاح يتبرع بها شوام وحلبية معادون للأسد إذ يحوّل كل طرف مدينته إلى طائفة باطنية متميزة مغلقة، ويُفقِدها بذلك مكمن ريادتها السابقة والمأمولة.

كنا في مبحث صغير بعنوان "عن لا مدينية الثورة السورية"، نُشر في مجلة كلمن ربيع 2012 وضمن كتاب بالفرنسية عن كلاسيك غارنييه 2018، قد تناولنا تكتيكات الأسد التي تدفع إلى ترييف الثورة آنذاك، وفي رأسها إغلاق الساحات الرئيسية في المدن. وكان رأينا باختصار أن للساحات الرئيسية أهمية رمزية لاعتبارين متلازمين؛ فهي مركز المدينة المتخفف من خصوصيات كل حي أو حارة فيها، وهي تالياً مركز الاجتماع الوطني الذي يحتمل التنوع والتعددية. حينها كان المتظاهرون قد أُجبروا على الانكفاء إلى الحارات، لتفقد المظاهرات ما تتيحه الساحة من تنوع لا يمكن التقاؤه إلا في المدينة.

نضيف أن السلطة حققت نجاحاً لا في تكتيكاتها عندما اندلعت المظاهرات فحسب، وإنما عبر مسار أطول من ترييف المدينة السورية، المسار الذي يتعدى بكثير ما يُحكى عادة عن هجرة الأرياف إلى المدن، مع التنويه بأن الأخيرة ظاهرة عالمية. ما نعنيه هو أن تكون لدينا أجيال من أبناء المدن، الذين لا يقصّرون في التباهي بمدينيتهم، بعقل ريفي. فالإعلاء من شأن النقاء والأصالة "كما يفعل هؤلاء" هو عقل يلتبس فيه العشائري والبدوي لا المديني المزعوم، وامتداح الانغلاق "السور كرمز له" هو في أحسن أحواله نكوص إلى حواضر القرون الوسطى، ما قبل العصر الصناعي والبرجوازي الذي صنع المدينة المعاصرة. من المستحسن الانتباه هنا إلى المدينة الحديثة بوصفها فضاء من التنافس الصناعي المادي والرمزي، وصِلة ذلك الوثيقة بالتنافس والتعدد السياسي.

ردُّ العصبوية الحلبية أو الشامية إلى عصبيات مناطقية موجودة في عموم سوريا لا يلحظ ثقل المدينتين، والدور الذي كان وسيبقى مأمولاً منهما، الدور الذي بالتأكيد لن يقوم به أشخاص يظنون أنهم يحرسون أسوار المدينة وفي جيوبهم مفاتيح أبوابها، ولو شتموا الأسد ليلاً ونهاراً. مع هؤلاء تسقط الاعتراضات على مسلسل سطحي مبتذل مثل "باب الحارة"، ليغدو تمثيلاً حقيقياً معاصراً لعقولهم. يتجاهل شامي معارض موالاةَ القبيسيات، وتنشر حلبية معارضة تسجيلاً من الطرب الحلبي بلا اكتراث بمناسبة الحفل الذي كان قد أقيم في القلعة احتفالاً باستعادة الأسد السيطرة على المدينة؛ هذه مجرد أمثلة عن عقلية السور.

فقط خارج عقلية السور، يمكن لتلك الفوارق المطبخية أن تكون مولِّدة للطرافة والفكاهة، على غرار النكات المتداولة عن الحماصنة أو عن التنافس الحمصي-الحموي المتواضع. أما عقلية السور، في أحسن حالاتها، فيغلب عليها الحنين، وتقول بمداورة أو وضوح: متى تنتهي الانقسامات وصراعات الرعاع خارج السور؟ ومتى يعود الجميع إلى أصولهم لنستأنف ذلك الصراع الشامي-الحلبي الأصيل النبيل؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها