الإثنين 2023/01/16

آخر تحديث: 07:50 (بيروت)

إيران: الفصل بين المقدس والمدنس

الإثنين 2023/01/16
إيران: الفصل بين المقدس والمدنس
increase حجم الخط decrease

حرّكت الرسوم الكاريكاتورية التي نشرتها مؤخراً صحيفة شارلي إيبدو الساخرة ضد رجال الدين الإيرانيين وفي مقدمهم مرشد النظام الإيراني الحالي علي خامنئي، هذه الرسوم حركت غضباً لدى قادة النظام الإيراني وأتباعه، واستفزت كثيرين داخل إيران وخارجها، بل رآها البعض جرحاً لمشاعرهم الدينية بحكم أن خامنئي مرجع ديني يقلده العديد من الشيعة في العالم، أي يرجعون إليه في تحديد وظائفهم الدينية ومعتقداتهم الصحيحة، ويراه كثيرون نموذج اقتداء وورع يصل إلى حد التقديس بل وسيلة خلاص أخروي لديهم. بالتالي كانت كل البيانات المستنكرة، مثل بيان حزب الله مثلاً، تركز على أن الرسوم "إساءة وعدوان على مقدساتنا ومقاماتنا"،  وأن التعرض لخامنئي هو "نيل من أرفع قامة إسلامية ودينية في العالم" فالخامنئي بحسب البيان "ليس زعيم دولة بل إمام أمة.. وهو اليوم رمز الإسلام ومنارته".

لست هنا لأؤيد أو أدين هذه الرسوم، أي لست لأحدد موقفاً سياسياً أو دينياً، وإنما لأظهر التداخل والخلط الحاصلين بين مجالين اللذين أديا إلى أن يرى البعض في هذه الرسوم تعبيراً سياسياً مشروعاً ذي طابع احتجاجي لإظهار قساوة النظام ووحشيته في قمع التظاهرات في إيران، ويراها البعض الآخر إعتداء على مقدسات دينية، بل هي بحسب بيان حزب الله لا تقل في جرمها عن النيل من "قدسية رسولنا الأعظم محمد، ومن كرامة السيد المسيح، والعديد من رموز ديانات السماء".

ما فعله النظام الإيراني منذ بداياته التأسيسية الأولى، أنه أنشأ تداخلاً وخلطاً بين مجالين: الديني والسياسي، تسببا بتعطيل كلا المجالين، بسبب تلبس كل مجال بالآخر واتخاذه حقيقة غير حقيقته ووظيفة ومهمة غير وظيفته ومهمته، وأفضيا إلى تناقضات وصراعات لن تتوقف داخل المجال الشيعي.

الخلط بين المجالين تمثل برفع الفعل السياسي إلى منزلة الديني والتلبس به، لتستعير السلطة من الدين بسخاء ومن دون سقف ألقاب التعالي وصفات التنزيه والتمجيد، ويكون بالإمكان إصباغ القداسة على الشخصيات والمواقف والقرارات السياسية، ليصبح القول السياسي قولا مؤيداً وملهماً وحتى معصموماً، وتترسخ مماهاة وتطابق بين الموقف والأداء السياسي من جهة والموقف الإيماني والسلوك الديني من جهة أخرى.  بالتالي، تتحول طاعة الحاكم من علاقة تدبير حياتي وانتظام مجتمعي، إلى فعل خلاص وسفينة نجاة من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق في الآثام والخطايا. 

رفع السياسي إلى مرتية الديني، يؤدي من جهة إلى تعطيل الفعل السياسي نفسه، فلا يعود قائماً على توافق الإرادات الحرة أو صراعها، أو على العقد الاجتماعي، أو تداول السلطة، أو إقرار المجتمع، أو الإنتخاب والتمثيل الشعبي، أو لعبة سلطة ومعارضة، أو طريق لبناء رأي عام.  بل يصير علاقة طاعة ملزمة بين إرادة إلهية من جهة لا تقبل النقاش أو الرد، تدعي تمثيلها وقدرة الكشف عنها جهة أو مؤسسة أو شخص،  وبين إرادة فردية قاصرة وطائشة، لا حقيقة لإرادتها إلا أن تكون مكبلة ومقيدة، ولا تملك من حريتها حريتها إلا أن تخضع وتذعن. 

ويؤدي من جهة أخرى إلى إنزال الديني إلى حقل السياسي، بل تحويله حقيقة سياسية خالصة، أي حقيقة إكراه وغلبة وإرغام لا طريق صعود وارتقاء، آلة سلطة وأمر لا وسيلة نقاء وتطهر وتزكية للنفس. عندها يفقد الدين وظيفته، لأنه بات متلبساً بشيء ليس من حقيقته ويقوم بمهام ليست من مهامه.  فلا يعود الدين، وفق الأدبيات الحديثة حوله، مصدر استنارة داخلية بحسب شلايرماخر، أو إرواء الظمأ الوجودي للإنسان بحسب كيركغارد، أو أرضية وجودي ومعنى للكينونة الإنسانية بحسب بول تيلليش، أو منطلقا لممارسة الفعل الحر بحسب غابريل مارسيل.  

حرص خامنئي على الجمع بين المقام الديني الخالص من جهة، الذي هو مقام المرجعية الدينية لبيان الحكم والوظيفة الدينين.  أي مهمة الإفتاء، التي لا تحتاج في القيام بها إلى سلطة أمر أو زعامة سياسية، بقدر ما تحتاج إلى ملكة اجتهادية نافذة واستقامة أخلاقية، وبين السلطة السياسية من جهة أخرى، التي من طبيعتها الذاتية الإكراه، وصراع الإرادات، وتناقض المصالح، أي من طبيعتها أن تكون ساحة اصطفافات، خلاف واختلاف، رأي ورأي مضاد، ولاء ومعارضة، خطأ وصواب.

حين يفعل خامنئي ذلك، أي الجمع بين المكانة الدينية وممارسة السلطة السياسية، يكون قد حمَّل المرجعية الشيعية التي حرصت تاريخياً على إخراج السياسة من مرماها، أثام وأخطاء وانتهاكات وعواقب فعله السياسي. ويكون قد جعل التعرض له في أدائه السياسي وطريقة إدارته للحكم تعرضاً للدين نفسه بسبب موقعه المرجعي. 

هو خلط ولبسٌ، بين الديني والسياسي، ما تزال مؤسسة ولاية الفقيه في إيران وأذرعها في الخارج، تجهد في تجذيرهما في شخص خامنئي نفسه، لتظهر أن انتقاده أو التجريح بشخصه في السياسة هو انتهاك للإسلام وتعد على مقدساته.  ولعله، بسبب هذا الخلط، الذي يرفع خامنئي إلى مصاف المقدسين، كان تهجم خامنئي على المعارضين والمتظاهرين ونعتهم بشتى أنواع التهم وعبارات التحقير والسقوط، كان أمراً طبيعياً وحقاً مكتسباً، في حين كان حتى الرد أو التهجم عليه جنحة قانونية ومن كبائر الذنوب.   

قد يكون لتوقيت وطريقة إصدار الرسوم حسابات سياسية مرتبطة بدولة فرنسا، وقد تكون هذه الرسوم بمثابة منبر تعبير حر لحراك إيراني سدت بوجهه جميع سبل التعبير وإيصال الصوت داخل إيران،  وقد تكون بأسلوبها اللاذع مستفزة لمشاعر مؤيدي وأتباع خامنئي.  هذه جميعها تحليلات محتملة، لكن مسألة الرسوم وتداعياتها تبقى في دائرة السياسة ولعبة السلطة، جدل الحكم والمعارضة، مساحة الفعل البشري الذي يخطيء ويصيب،  ومجال الطبيعة الإنسانية التي تصارع اختبارات الشهوة والطمع والأنانية فتنجح حيناً وتخفق أحياناً كثيرة.   السلطة لا تقصد إلا ذاتها، هذه طبيعتها دائماً وأبداً، ولن يغير من حقيقة ذلك لوائح المدح والتبجيل والمقامات التي نسبغها بكرم فائض على أهلها.  

الفصل بين المجالين، الديني والسياسي، بات حقيقة مؤكدة بسبب الكوارث التي أنتجها التداخل بينهما في التاريخ، وبات ضرورة لفاعلية أي دين وحاجة لأي انتظام سياسي معاصر.  هو فصل  يحفظ للمقدس علوه وتساميه عن كل مدنس. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها