الأربعاء 2022/09/14

آخر تحديث: 12:39 (بيروت)

عن سوريا المتروكة لإيران وتركيا

الأربعاء 2022/09/14
عن سوريا المتروكة لإيران وتركيا
سوريون تجمعوا عند معبر باب الهوى للانضمام إلى "قافلة السلام" وتعرضوا لإطلاق نار من تحالف "الحياة-تحرير الشام" (غيتي)
increase حجم الخط decrease
يوماً بعد آخر تصبح الصورة أكثر جلاء، فمصير سوريا تقرره القوتان الإقليميتان الأقوى، تركيا وإيران، أو بالأحرى المصالح القومية لكل منهما، وهو ما صار بارزاً في هذه المرحلة، في ظل تراجع دور روسيا الغارقة في أوكرانيا، والولايات المتحدة المشغولة بالصين. أما إسرائيل فتفعل ما يكفي لحماية مصالحها وأمنها ولا شيء آخر، ولا أحد يعرف سر نأي الدول العربية بنفسها عن الشأن السوري، لكن السبب على الأرجح هو الافتقار الى استراتيجية واضحة، مغلفة بتبكيت السوريين لاختيار فرق منهم الفرس نصيراً، واختيار فريق آخر للأتراك ولياً، وإدارة الظهر للأشقاء.

لن ألجأ هنا إلى خرائط توزع السيطرة على الأرض السورية، فالحدود أحياناً خادعة، أما عذابات البشر فصادقة، وذروة ما عاناه السوريون يتبدى في ركوب الأهوال للفرار من أرض الآباء والأجداد، أي تجربة اللجوء التي بلغت أقاصي الأرض شرقاً وغرباً.

فاليوم ثمّة موجة لجوء سورية كثيفة، وكل يوم يدخل بلدان الاتحاد الاوربي نحو 500 لاجئ جديد، على غرار موجة العام 2015 التي حملت نحو نصف مليون سوري إلى بر الأمان.

وقد أخبرني صديق مطلع على أحوال المخيم المركزي للاجئين في هولندا، على سبيل المثال، إن نصف طالبي اللجوء هناك من مناطق سيطرة النظام، التي تسيطر عليها إيران فعلياً، والنصف الآخر من تركيا، أو مناطق الشمال التي تسيطر عليها بدورها.

حتى عام مضى، كان سوريو تركيا يعزّون أنفسهم بأن وجودهم في بلد مجاور، يشعرهم بأنهم في بلادهم وعلى مقربة من أرضهم التي سيعودون إليها مع أول بشائر الحلّ. وعلى الرغم من مرور السنوات عجافاً وبلا أمل، ومع صعوبة ظروفهم في تركيا حيث يعيشون كضيوف بما يعنيه ذلك من حرج على الأقل، إلا أن آمالهم لم تخبُ، وقاوموا الرغبة في الهجرة إلى أوروبا. لكن، في السنة الأخيرة، بدأت السياسة التركية تتغير، وأدارت قيادة حزب "العدالة والتنمية" وجهها عن مأساة السوريين، لتتطلع إلى التلاقي مع المتسبب فيها، كما تقتضي مصالح الدولة الجيوستراتيجية. وبالتزامن، تصاعدت موجة العداء للسوريين في تركيا، على نحو لا يمكن تحمله، فهاجر من أسعفته إمكاناته المالية في تحمّل أجور المهرّبين، فيما تجمع العاجزون عن ذلك في حملة في وسائل التواصل الاجتماعي للهجرة الجماعية إلى أوروبا، سُمّيت بقافلة النور، وضمت حتى الآن ما يزيد عن 40 ألف مشترك، ولم يتضح بعد إن كانت ستنجح أم ستفشل، شأن قافلة أخرى حاولت الانطلاق من شمال غربي سوريا لعبور الأراضي التركية إلى اوروبا، ودُعيت بقافلة السلام.

إذن، ثمّة تحولات سلبية معلنة في تركيا، تفسر هروب السوريين، لكن ما الذي يدفع أقرانهم الواقعين تحت سيطرة النظام للرحيل الكثيف بعدما أعلن النظام انتصاره، وعودة الاستقرار إلى المناطق التي يسيطر عليها، بل ودعوته اللاجئين للعودة.. فكم بالحريّ مَن "صمد" معه عشر سنوات؟ لماذا يفرّ منه اليوم؟

الحال إن مَن يشعر بانتصاره في سوريا هو إيران، وهي تريد أن تترجم انتصارها إلى امتلاك حصري لهذا البلد، على غرار العراق ولبنان واليمن. ولما كانت غالبية سكان سوريا على تناقض عقائدي مع إيران، بخلاف البلاد آنفة الذِّكر، فإن تهجيرهم بشتى الأساليب، وجلب سكان جدد موالين لطهران، يبدو الحل الأفضل لإعادة هندسة البلد سكانياً بما يتوافق مع التطلعات الإيرانية.

وقد أخبرني الصديق المطلع على أحوال مخيم طالبي اللجوء في هولندا أيضاً، أن معظم القادمين من مناطق النظام صرحوا بأنهم باعوا منازلهم لتأمين تكاليف الرحلة إلى أوروبا، والتي تبلغ نحو 15 ألف يورو. وبحثت بنفسي في سوق العقارات ووضعه الراهن في سوريا، لأجد أن وكلاء إيران، في منطقتين على الأقل، هم من يشترون تلك المنازل. ففي البو كمال الحدودية، أخبرني أحد الأهالي بأن عشرات المشترين يتوافرون ما أن يعرض أحد السكان منزلاً للبيع، وهو أمر مستغرب في ظل ضيق أحوال عامة الناس وفقرهم. إلا أن الأمر يصبح مفهوماً عندما نعرف أن كل الراغبين في الشراء هم من المرتبطين بالمليشيات الإيرانية هناك.

وفي ضاحية المعضمية أيضاً، قرب دمشق، أخبرني ناشط إعلامي بأن تاجراً يدعى فرحان المرسومي، اشترى وما زال يشتري معظم المنازل المعروضة للبيع. ويستقيم الأمر عندما نعلم أن المرسومي شخص مغمور من قرية على الحدود السورية العراقية السورية، وكان مِن أوائل مَن عقدوا صِلات مع المليشيات الإيرانية الوافدة، وخاض معها في تجارة المواد المخدرة والتجنيد والتشيُّع، ليغدو اليوم من كبار المتمولين في عموم البلاد، يتحرك بحقيبة مالية منتفخة لشراء العقارات بأسعار سخية، ولا أحد يعرف على وجه الدقّة الجهة التي تقف وراءه، ولا الغاية من جمع كل تلك الأراضي والدّور.

إن هذا المشهد المتشائم، الذي يبدأ مكانياً من مخيم اللاجئين في هولندا، يزداد قتامة فيما لو تم سحبه زمنياً نحو المستقبل. فسوريا التي فقدت نصف سكانها في خلال عشرة أعوام، وطاولت الهجرة القوى البشرية الصلبة فيها، أي الأجيال الشابة والتكنوقراط وأصحاب رؤوس الأموال، ستفقد في غضون سنوات ما تبقى من سكانها الأصليين، سواء بالهجرة أو بتحويل هويتهم، لتصبح إيرانية أو تركية. بمعنى آخر، ستفقد هذه البقعة الجغرافية هويتها الثقافية ودورها السياسي المستقل، وربما أيضاً وجودها السياسي المكرس ذاته، لتتقاسم ذلك كله الدولتان الإقليميتان الكبيرتان.

لكن التشاؤم هذا ليس مدعاة للتسليم ولا دعوة للاستسلام. التاريخ بتجاربه يقول إن ثمة ما يمكن فعله دائماً، ويقول أيضاً إن الغزاة والمحتلّين إلى رحيل مهما طال جثومهم، ولا خيار أمامنا كسوريين، سوى الإعلان بأن انتزاع بلادنا من أنياب محتليها وعملائهم هو هدفنا الأول اليوم، مع ايلاء اهتمام خاص لأصحاب المصلحة القومية المباشرة والمستمرة في سوريا، أي إيران وتركيا.

الدعوة لسيادة واستقلال سوريا، لا يمكن أن تبدأ سوى من أروقة السياسة والسياسيين، المخضرمين منهم والصاعدين، على أن تقترن بإعادة الاعتبار للوطنية السورية والمأسسة ونسج التحالفات مع العمق العربي والجوار الأوروبي، لخلق نوع من توازن القوى مع الدولتين المهيمنتين. وتبدو المَهاجر مكاناً مناسباً لها اليوم، لكن بقاءها هناك لا يجوز، إذ يجب أن تنتقل إلى الداخل السوري، وأن يتم الاستعداد منذ الآن لنقلها من الشكل السياسي والثقافي إلى الحالة الميدانية الحركية، ما إن تسمح بذلك موازين القوى الإقليمية والدولية، دائمة التقلب والتغير.     
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها