الثلاثاء 2022/08/16

آخر تحديث: 08:34 (بيروت)

الأكراد بوصفهم فيلم رعب طويل

الثلاثاء 2022/08/16
الأكراد بوصفهم فيلم رعب طويل
increase حجم الخط decrease

أغلب الظن أننا لن نشهد تغيراً حقيقياً بسبب التصريحات التركية الأخيرة، واحتجاجات السوريين عليها في مناطق النفوذ التركي خاصةً. لن تتغير السياسة التركية بسبب المظاهرات المناهضة لها، وهي بهذا مستندة إلى ورقة شديدة القوة، أي الإمساك بمصير السوريين، أولئك الذين أثبتوا "بمظاهراتهم" تشبثهم بالوجود التركي كبديل وحيد ممكن عن العودة إلى كابوس الأسد.

جدير بالتذكير أن المعارضة المعتمَدة دولياً تقيم في تركيا، وهي تحت النفوذ التركي بتوافق دولي، مع ترك نسبة صغيرة من هيئة التفاوض لحسابات وجودها في الرياض، بموجب قسمة اتُفق عليها ضمن تفاهمات فيينا. المعارضة السورية الحالية، منذ تجربة المجلس الوطني، كانت دائماً تحت وصاية ما. الانقلاب على هذه الوضعية يعني الانقلاب على الإرادة الدولية التي كرّستها، وبات يتطلب إثبات أن السوريين قادرين على تشكيل معارضة غير قاصرة ليُسلَّم زمامها إلى جهاز مخابرات هنا أو هناك.

ليست المسألة أن تتحرر المعارضة من حسابات أنقرة المتصلة بعلاقتها بموسكو وطهران، وتالياً آفاق علاقتها بالأسد. وليست المسألة فقط تشكيل هياكل معارضة وطنية مستقلة القرار، وبمعارضين لا يقبلون إملاءات خارجية، ولا يرتزقون منها، بمعنى أن يكون الدعم المالي والسياسي شراءً لهم ولمؤسستهم. إن واحداً من أهم الأسئلة المطروحة على المعارضة المفترضة وقواعدها هو قدرتها على مواجهة فيلم الرعب الكردي بواقعية، وبشجاعةِ مَن يواجه أوهامه قبل أوهام الآخرين.

لن تكون هناك قضية "وطنية" سورية إذا أقصت من أولوياتها أكراد سوريا، وإذا لم تُفتح صفحة جديدة بعد ما يزيد عن عقد من الخراب الذي توالى على تكريسه الطرفان. هذا الرأي ينطلق من الواقع، حيث في المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد هناك المعارضة الواقعة تحت النفوذ التركي مقابل الحماية، وهناك الإدارة الذاتية الكردية تحت النفوذ والحماية الأمريكيين، من دون أن يكون لواشنطن اشتراطات شديدة الوطأة كنظيرتها التركية.

طوال سنوات، منذ التدخل الأمريكي على الأقل، أبرزت المعارضة العربية المسألة الكردية كأنها فيلم شديد الرعب بخاتمته المحتومة، ويُقصد بالأخيرة الوصول الأكيد إلى الانفصال عن سوريا. إذاً، الخطر الكردي يعادل خطر الأسد، بل يتفوق عليه لأن الأسد لن يبقى إلى الأبد مثل تقسيم سوريا "الذي يهدد به الأكراد". عطفاً على ذلك، إذا كان الخيار بين استقواء الأكراد بأمريكا وعودتهم إلى قبضة الأسد، فليكن الثاني منهما ولو أنه يقوّي الأسد. بين الشقوق، هناك تناقض يُترك عمداً بعيداً عن الإضاءة والنقاش؛ بين توسل الدعم الأمريكي ومحاربة قسد المدعومة أمريكياً، وصولاً إلى تمني الانسحاب الأمريكي ضمن معاداة الإدارة الذاتية، رغم أن الانسحاب سيضعف قدرة واشنطن على الضغط، وسيقلل من اهتمامها بالشأن السوري فوق ضعفه أصلاً.

مع تنامي قوة قسد، واتساع رقعة سيطرتها في الحرب المدعومة أمريكياً على داعش، لم يقصّر أكرادٌ في تأدية أدوارهم ضمن فيلم الرعب ذاته. لقد شهدنا كيف تعاظمت دعاوى الحق الكردي، فلم يعد الحديث مقتصراً على "مناطق ذات أغلبية كردية"، الحديث بات عن الشمال السوري كله، والخرائط المعلنة راحت تضمّ مناطق كانت بعيدة عن السجال القومي ومنها مدينة حلب. انحسرت تلك الأوهام بعد خسارة عفرين والشريط الواقع بين تل أبيض ورأس العين، ومع كل تهديد تركي جديد راح مَن كانوا يحلمون بالسيطرة على الشمال كله يعددون محاسن العودة إلى الأسد بالمقارنة مع التركي والفصائل والمعارضة التابعتين له.

جزء من وقود الحرب المستمرة والمستعرة بين الجانبين هي دعاوى الحق التاريخي، التي من خلالها يريد كل طرف إثبات أصالته في المنطقة وأحقيته على الآخر في أن يكون شعباً. في التاريخ وممالكه الكثيرة المتعاقبة، يستطيع كل طرف أو شخص الاسترخاء على هواه، وأن يرى أحلام اليقظة التي تروق له، وأن يرسم بناء عليها الخرائط كأنه يتمنى لنفسه أملاكاً شاسعة. سبق لقوميين عرب أن رسموا الخرائط لدولة عظمى تأخذ كيليكيا وديار بكر من تركيا، مزاحمين عليهما المطالبات الكردية والأرمنية، ثم انتهت الأحلام إلى الخراب الذي رأيناه في سوريا والعراق، وهذا المصير ليس حكراً على العروبيين، إنه في مستقبل جميع الواهمين من الصنف نفسه.

في الأفلام المبسّطة فحسب يستطيع الكردي جعل أحلامه حقيقة، وفي مثلها يستطيع العروبي تخيّل دولته العظمى الخالية من الإثنيات أو المسيطَر عليها بإحكام. في السياسة التي تقرأ الواقع جيداً، لا أحد منهما سيحصل على سقف أحلامه، ومتى قررا الاحتكام إلى الواقع "الداخلي والإقليمي" سيضطران معاً إلى البحث في حلول ليست من طبيعة فيلم الرعب الكاذب.

تجار الأوهام على الجانبين هم أكثر من يخشى "التورط" في السياسة، العروبي منهما يعيش على ذلك الرعب القائل انظروا إلى الأحلام، وحتى إلى المطالب، الكرديتين اللتين لا تبقيان لنا وطناً. وفي هذا استئناف لقول سابق مفاده: العالم يتآمر علينا لأننا سنكون أقوياء وخطرين في وحدتنا العربية. نظيره الكردي لا يبتعد من حيث آلية التفكير، ونصادف بوفرة شديدة المقولةَ التي تتكرر بصياغات متعددة ومفادها أن الوطن الكردي الواحد ممكن لولا التآمر على حرمان الأكراد منه، لأن وحدته تهدد بتقويض أربعة بلدان.

جلوس الجانبين في سوريا إلى طاولة التفاوض، بنيّة إنجاحه حقاً، سيستبعد دعاوى التاريخ، ويمتحن دعاوى الحاضر، ومنها المتضاربة حول التوزع والغالبية الديموغرافيين "السابقين على تغييرات السنوات الأخيرة وعلى أية تغييرات ممنهجة متعمدة من قبل". التفاوض أيضاً يختبر شعاراً يرفعه بعض الأحزاب الكردية هو "حق تقرير المصير"، لأن الاتفاق بين الجانبين على برنامج مشترك لا بد أن يتضمن الحد الذي يريده الأكراد من ذلك الشعار، فلا يبقى أسير الأحلام من جانب والمخاوف من جانب آخر.

الخروج من ضغط فيلم الرعب هو ما يتيح مناقشة أفكار تتجنبها أو ترفضها المعارضة المتوجسة منها لصدورها عن الأكراد، وفي مقدمها طرح اللامركزية الذي راح فهمه يُختزل بكونه مطلباً كردياً يمهّد للانفصال. هكذا مثلاً، ضمن النكايات المتبادلة، تُهدر فرصة النقاش الجاد في تفكيك المركزية كركيزة للاستبداد، فيظهر حلم طرف كأنه الإبقاء على سوريا كما كانت، إنما من دون الأسد، في حين لا يمانع الطرف الآخر بمثال على شاكلة الأسد إن كان كردياً، ثم ليفضّل النسخة الحالية طالما أن المعارضة لا تعدِه بالأفضل.

إذا كنا سنقرأ المظاهرات والاحتجاجات السورية الأخيرة، ضد التصريحات التركية، بوصفها استعادة للهدف الأساسي المتمثل بالثورة على الأسد، فمن الضروري نقد ما حدث خلال سنوات تبنت خلالها المعارضة السياسة التركية بأولوية هاجسها الكردي. في المقابل، إذا كانت قسد حريصة حقاً على عدم تنفيذ مخططات أنقرة فإنها ستبحث بجدية في مختلف الحلول التي تجنبها العودة إلى الأسد، وإذا كانت تبحث عن حل مستقبلي أفضل ومستدام فهو بالتأكيد لن يكون في أقبية مخابراته، بل هو في كون الأكراد جزءاً معتبراً من مشروع التغيير الديموقراطي ليكونوا شركاء في حصيلته، بعدما تهاوت فرضيتا التكسب على الفراغ والاستفادة من تناقضات الداخل والخارج.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها