الأربعاء 2022/07/20

آخر تحديث: 20:09 (بيروت)

عن الصمت والكلام في القضية النسوية السورية

الأربعاء 2022/07/20
عن الصمت والكلام في القضية النسوية السورية
(غيتي)
increase حجم الخط decrease
تضج وسائل التواصل الاجتماعي السوري، منذ أسبوع، بجدل محتدم حول واقعة أخلاقية، تتمثل في إساءة عدد من النشطاء لزميلة لهم، عبر تداول صورة لها في سياق جنسي. وبالطبع، تفاوتت ردود الأفعال والتدخلات والتعليقات، ضمن طيف واسع من الخيارات، ابتداء من الابتذال اللفظي الجنسي الذي تفوح منه رائحة ذكورية حادة، إلى تفسيرات وتبريرات توسلت سيغموند فرويد ونظريته في الكبت، إلى استخدام مكثف لمصطلحات ومفاهيم الهيئات النسوية العالمية، مثل "الاستحقاق الذكوري".

قادت الهجوم نساء سوريات، أو هي "الطّوشة" كما يحلو للبعض تسميتها باعتبارها معركة بلا جراح ولا دماء، أو للتقليل من أهميتها. نسويات وغير نسويات، من بيئات تقليدية وأخرى منفتحة، تموضعن على جبهتي النزاع، ولم يبدُ للحظة أن الجدل مفتعل، أو محض حملة "مناصرة" مثل التي تطلقها منظمات نسوية بين فترة وأخرى.

يمكن لمن يمتلك صفحة فايسبوك أن يستطلع بسهولة أنواع الاصطفافات والمواقف. إعلانات متبادلة بين أصدقاء عن الغاء صداقات وعلاقات واقعية وافتراضية وشراكات عمل، اكتشافات متأخرة هنا وهناك لسلوكيات و"انحرافات" آن وقت فضحها، صفوف خلفية مساندة وداعمة لأحد طرفي النزاع، أو أن بعضهم لم يطور موقفاً واضحاً منه، لكن الجميع يرمي سهماً موارباً هنا، أو يضع "لايك" أو قلباً هناك. الفئة المحافظة هاجمت طرفي الصراع معاً، معلنة ما تزعمه دائماً، وهو أن الأمور في "صفوفها" لا تنحدر إلى هذا "الحضيض"! مثلهم دعاة الثورة النقية، استنكروا أن ينسب الخائضون في هذه "الممارسات" إلى صفوف الثورة والثوار.

أعداد كبيرة من الجمهور الذي تجتذبه الفضيحة ونبش الأسرار، أطلوا برؤوسهم وشاركوا من موقعهم ذاك. لفتني أن أحدهم بعدما علّق على منشورات عامة، شاتماً أو ساخراً أو مستهجناً، كتب في صفحة صديق له: "ما هي النسوية؟ منذ يومين أسمع بها كثيراً ولا أعرف معناها".

لكن فئتين لوحظ انكفاؤهما عن الجدل والنقاش. أولاً، عتاولة "التنوير". وثانياً، أرباب التيار الديني. وقد ارتفعت أصوات متعددة مُطالبة بـ"سماع" صوت هذا أو ذاك من المثقفين ودعاة تحرر المرأة. لكن المطالبات لم تجد آذاناً صاغية، وأحجم معظم هؤلاء عن الخوض في الحمأة. ولم يفت عالم الفايسبوكيين هذا التفصيل، ففسره العديد من المتداخلين والمتداخلات بكون مدّعي مناصرة المرأة هؤلاء، هم في الحقيقة من كبار المتحرشين، ولديهم سجلات كاملة تحتفظ بها صديقاتهم ومعارفهم، وأنه سيتم اصطيادهم في ما لو أطلوا برؤوسهم، سلباً أو ايجاباً، خصوصاً أن المتهمين بواقعة "إهانة الجسد" موضوع النقاش، هم من دعاة تحرر المرأة وتمكينها.

أما التيار الديني، أو غلاة دعاته، ممن حذروا مراراً من دعاوى تمكين المرأة ونشاط المنظمات النسوية، فقد هالهم على ما يبدو أن المعركة صارت أبعد بكثير مما يمكن أن ترمي إليه أسلحتهم المتقادمة، التي تستهدف بالكاد ظهور شعر المرأة هنا، ونبرة صوتها هناك، ونوع ومقدار زينتها. فالنقاش، في نظرهم، يدور حول الحق في العري، وتُستخدم فيه عبارات ومصطلحات يشق عليهم فهمها، أو تداولها والخوض فيها.

إن مواقف المتنازعَين المعلَنين تسوي نفسها بنفسها، ونتائجها تتوقف على مهارة وبراعة كل من طرفيها، لكن المخيف يكمن في الخفي، أي في موقف الفئتين اللتين احجمتا عن الانخراط في النقاش. فالتنويري الذي لا يجرؤ على خوض صراع يُحتمل أن يواجه فيه ذاته وأخطاءها والاعتراف بها، لا يمكنه أن يخوض معركة اجتماعية وسياسية، يطالب فيها المجتمع بمراجعة ومواجهة منظومته الفكرية والقيمية القارة ومكامن الخلل فيها. ورجل الدين الذي يعتقد أن الجمهور الذي اقتطعه وحصّنه بأوامر ونواهٍ حازمة، هو بالضرورة جمهور مصاب بعمى الألوان ولا يمكنه رؤية العالم وتحولاته ولا يتفاعل معها، وأنه سيفقد السيطرة على هذا الجمهور، في اول معركة جديّة، عندما يكتشف أن ألف حصان طروادة مرّ إلى معسكره، وسيلجأ إلى السلاح الأخير لديه، وهو تكفير المجتمع وشيطنته، الأمر الذي لا حدود لعقابيله.

تقول إحدى قواعد عمل المنظمات النسوية، إن العنف اللفظي أو الفكري هو مقدمة للعنف المادي، وهي قاعدة عامة تاريخياً. فالحركات الكبرى في التاريخ بدأت على شكل أفكار، ثم كلام، ثم فعل. الأمر ينطبق على النقاش الدائر في أروقة وسائل التواصل الاجتماعي اليوم. فصعود النساء وأصواتهن ليس محض كلام، أو لن يبقى محض كلام، خصوصاً أنه يستند إلى قضية أخلاقية لا لبس فيها، وهي ظلم واضطهاد المرأة لآلاف السنين. وهي واقعة تتكرر فعلياً كل يوم وبما لا يحصى من المظاهر، بل والجرائم المروعة التي لا يكاد يمرّ أسبوع من دون أن نسمع بواحدة منها. إلا أن الصمت الذي قد يكون مسموعاً في بعض الأحيان، أكثر من أي صوت عال، قد يكون أشد خطورة في سياق التحولات الاجتماعية الكبرى. وفي حالة النساء في مجتمعنا المعاصر، وفي جانبه الشرقي على وجه التحديد، يمثل عدم الانخراط في النقاش، سواء كان مع أو ضد، واستبعاده كشيء تافه أو نجس، نوعاً من الانفصال المؤذي، وتصح فيه، أكثر من أي مكان آخر، عبارة "الصمت يقتلنا"، والذي ليس إلا تطويراً لقاعدة فرض الصمت على المرأة، التي لم يعد من الممكن اسكاتها، بالانتقال إلى السكوت عنها وتجاهل قضيتها، وهو ما لن يكون ممكناً في المدى المنظور على كل حال.

يعتقد الكثير من الدارسين الاجتماعيين، أن الحربين العالميتين الكبريين، كانتا السياق الأكثر فاعلية لصعود النساء وتحررهن في الغرب، وربما كان الأمر ذاته ينطبق على الحالة السورية. لكني أميل إلى الإشارة إلى العبارة الشهيرة لفرويد، والتي تقول بأن الحرب تحطم أوهامنا، ولربما أن ما يمرّ به مجتمعنا من حروب وصراعات، يحطم أوهامه التاريخية حول المرأة، وعلاقتها مع الرجل، ويضعها في سياق صحيح، من وجهة نظر عصرنا هذا على الأقل. ولا اتخيل مراجعة شاملة، اليوم، لأصول العلاقة في الدين والأخلاق والقانون، لكني أتصور "فتح نقاش"، لم يعد في إمكان أحد التهرب منه، لا في العائلة أو في المجتمع، ولا في السياسة أو الثقافة.  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها