السبت 2022/07/02

آخر تحديث: 08:32 (بيروت)

تباً لكم ولثوراتكم!

السبت 2022/07/02
تباً لكم ولثوراتكم!
increase حجم الخط decrease

في الخامس والعشرين من هذا الشهر يُفترض بالتونسيين الذهاب للاقتراع على صفع البوعزيزي ثانية، وإذا شاء فليذهب وليحرق نفسه مرة أخرى، فإحراقه نفسه لن يحرّك ساكناً، وقد لا يتعدى كونه خبراً من أخبار المنوعات يشغل في أقصى حالاته مكاناً في التريند ليوم أو يومين. التونسيون مدعوون في هذا التاريخ للاقتراع على دستور جديد، بعد مرور سنة تماماً على الإجراءات التي اتخذها الرئيس قيس سعيد، وحلّ بموجبها الحكومة والبرلمان ليمسك بكافة السلطات.

رغم أن مقدمة الدستور الجديد تبدأ بالإشادة بثورة 17 ديسمبر2010 إلا أنها فوراً تشير إلى عشر سنوات تالية من الفساد والشعارات والوعود الكاذبة، إلى أن أتت إجراءات قيس سعيد المشار إليها أعلاه لتصحح مسار الثورة، بل لتصحح مسار التاريخ. والحديث عن قيام سعيد بتصحيح مسار الثورة والتاريخ ليس سخرية منا؛ هذا حرفياً ما ورد في المقدمة، ويُفترض بعد الاقتراع أن يُصبح جزءاً من الدستور يتطلب تعديله إجراءات ومطالعات واستفتاء.

لم يفعلها حافظ الأسد، وهو رائد التسمية إذ أطلق على انقلابه اسم "الحركة التصحيحية"، فلم يضع نصاً يشير إليها في الدستور الذي فصّله على قياس تفرّده بالسلطة. إننا مثلاً، من حيث الشكل على الأقل، نرى في دستور حافظ الأسد مواداً عديدة تخص مهام وصلاحيات رئيس الحكومة، رغم أنه احتكر لنفسه صلاحية تعيين الحكومة ورئيسها. بينما احتكر قيس سعيد لنفسه حق تعيين وإقالة رئيس الحكومة وأعضائها مع كونه رئيساً للدولة ولجلسات مجلس الوزراء، مكتفياً بعشرين كلمة لا غير للحديث عن مهام وصلاحيات المسكين رئيس الحكومة!

منذ توليه الرئاسة، أظهر سعيد طموحه لتحويل النظام التونسي إلى نظام رئاسي، ويصعب الظن بأن هذا مجرد طموح شخصي لا تسنده قوى ومصالح من التركيبة السابقة على الثورة، والمتحفزة إلى الانقضاض عليها. واحد من المؤشرات في الدستور الجديد أن الرئيس هو القائد الأعلى للجيش، وهذا يختلف بالتأكيد عن ديمقراطيات عريقة يكون فيها الرئيس قائداً أعلى للجيش، ديمقراطيات لا تعتمد ضمناً سلطة الجيش أو المخابرات أو كليهما.

في الفقرة التالية، نقرأ صلاحية غريبة نوعاً ما عن الصلاحيات المعتادة للرؤساء، وهي تعيينه ممثلي بلاده في الخارج بدلاً من أن تكون من مهام وزارة الخارجية. ولا نجد تفسيراً لها سوى دلالتها على الحجم الضخم للسلطات التي يريد سعيد الإمساك بها من خلال دستوره، بما فيها تعدّيه على البرلمان بصلاحية التشريع. وبالمثل، لا نجد تفسيراً مقنعاً لحرمان القضاة دستورياً من حق الإضراب، أسوة بالجيش والشرطة، إلا نقمته مؤخراً على القضاة لأنهم أضربوا احتجاجاً على توقيف العشرات منهم وإحالتهم إلى المحاكم بتهم مختلفة. يُذكر أن بين الموقوفين ثلاث قاضيات اتُهمن بالزنا، وأُرفقت ملفاتهن بمحاضر "أمنية" من ضمنها كشوف العذرية. 

ثم إننا نقرأ في الدستور إنشاءً من قبيل أن "الديموقراطية الحقيقية لن تنجح إلا إذا كانت الديموقراطية السياسية مشفوعة بديموقراطية اقتصادية واجتماعية". أو من قبيل "نحن شعب يرفض أن تدخل دولتنا في تحالفات في الخارج، كما نرفض أن يتدخل أحد في شؤوننا الداخلية". ونعلم أن وظيفة الإنشاء في الفقرة الأولى هي النيل من الديموقراطية السياسية بربطها فيما يستحيل قياسه من نظيرتيها الاقتصادية والاجتماعية، أما رفض التدخلات الخارجية فمعناه الراسخ لدى حكام المنطقة رفضهم أي انتقاد خارجي لتعاملهم مع قضايا الحريات وحقوق الإنسان. 

ومن الطريف للوهلة الأولى وجود نص دستوري يمنع إقامة تحالفات خارجية، مع أن التحالفات بأنواعها هي من طبيعة السياسات الدولية، لكن ينبغي أن نتذكر هنا فوائد الانعزال لجهة عزل الشعب عن العالم، ما يسهّل حصاره وتطويعه. على ذلك يمكن فهم الفقرة التي يتحتم فيها على الرئيس أن يكون تونسياً غير حامل لجنسية أخرى، ومولوداً لأبوين تونسيين وجدين تونسيين بلا انقطاع، فهذا الشرط يستبعد عدداً كبيراً ممن عاشوا على ضفتي المتوسط، ومن المحتمل جداً أنهم تأثروا بثقافة الضفة الأوروبية منه. ذلك لم يمنع وجود طرفة في الدستور تتعلق بتلك المؤثرات، هي النص على أن شعار الجمهورية التونسية هو: "حرية، نظام، عدالة"، ما يذكّرنا بالشعار الفرنسي "حرية، مساواة، أخوة"، إنما بمؤثرات محلية حشرت كلمة "نظام" مباشرة بعد الحرية.

السيء جداً في الجدل المحدود الذي رافق إجراءات قيس سعيد الانقلابية، ورافق لاحقاً التمهيد لطرح الدستور على الاستفتاء العام، هو تصوير ما حدث كأنه صراع بين علمانية سعيد وإسلامية الغنوشي والنهضة. فالبعبع الإسلامي استُخدم للتغطية على استهداف الديموقراطية أساساً، ولا شك في أن سعيد ومَنْ وراءه أحسنوا أيضاً استغلال الاستياء العام لا من إسلامية النهضة، بل مما راح يُنسب إليها من تهم بالفساد. للتنويه، ينص الدستور الجديد على أن دين الرئيس هو الإسلام. 

الأسوأ ربما أن الانقضاض على الديموقراطية، وصولاً إلى دستور يكرّس حكم الفرد تحت راية النظام الرئاسي، حدث ويحدث في جو من اللامبالاة. لسان حال دستور قيس سعيد: "تباً لكم ولثوراتكم"، وهذا تعبير ينسجم مع اللغة العربية التي يبدو سعيد متباهياً بطريقته في استخدامها. من الأسوأ أن للنكوص التونسي عن الديموقراطية رمزية خاصة تتجاوز الحدود، فمن تونس انطلقت شرارة الثورات، ورغم تعثر مشاريع التغيير في باقي بلدان الربيع العربي بقي المثال التونسي بمثابة حجّة على الذين يريدون نقض مشروعية الثورات ككل. 

أتت الثورة من تونس مدوية، مبهجة، حمّالة أحلام وإن عزّ تحقيقها. اليوم، بما يشبه الصمت الجنائزي، يُشيَّع ذلك كله إلى مثواه في مسقط الرأس. بالطبع ليس من حتمية مفادها أن شعوب المنطقة ستركن إلى الاستبداد طويلاً، حتى إذا فضّلت حالياً الاستقرارَ على دفع كلفة التغيير أو الثورة. بالمثل، لا يمكن اعتبار قيس سعيد ديكتاتوراً من أولئك الذين يأتون بعد الفوضى التي تتسبب بها الثورات، ويُسترجع على نحو خاص مجيء نابليون بعد عشر سنوات من اندلاع الثورة الفرنسية والفوضى التي أعقبتها. إذا كان التاريخ يكرر نفسه، ليأتي بسعيد مكان نابليون، فنحن من سيقول: تباً!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها