الأربعاء 2022/06/15

آخر تحديث: 06:13 (بيروت)

حوارات فائض القوة؟

الأربعاء 2022/06/15
حوارات فائض القوة؟
يُظهر النظام دلائل هشاشة، إلا أنها ليست بالعمق الذي يفرض عليه الانخراط في حوار جدّي (غيتي)
increase حجم الخط decrease
لا يفترض الحوار في معناه السياسي، حُسن النوايا. على الأغلب، تجرى الحوارات بين خصوم، أو في أفضل تقدير، بين متنافسين. في أصله اللغوي، يعني الحوار رجوعاً عن الكلام أو إليه، أي يفترض مراجعة الحديث بين طرفين أو أكثر، حتى يعود أحدهم أو جميعهم عن رأي أو موقف سابق. في هذا تشير المعاجم إلى "حور الأمر" بمعنى غيره. وفيما تفترض "آداب الحوار" هذا الاتفاق الضمني بين مُتحاورَين على قبول المنطق حكَماً بينهما، وعلى التسليم له، ففي عالم السياسة يأتي الإلزام من خارج أطر الكياسة والتأدب، بفعل القوة أو الحاجة أو المصلحة المتبادلة.

في جذره الصرفي وبتقصي دلالته الأبعد، يرتبط الحوار بالحيرة، حار المرء أي لم يهتدِ لسبيله. بهذا المعنى، يفيد الحوار إقراراً بعجز مبدئي وبنقص يستدعى الآخر لإكماله. هكذا، تشترط المحاورة ضمناً، اعترافاً متبادلاً بالضعف وترجي المعونة من الطرف الآخر.

تلك التأملات اللغوية المقتضبة لا تصلح سوى كلعبة بلاغية منشطة، حال ابتغينا الحديث عن الحوار الوطني الذي أعلنت عنه السلطة في مصر مؤخراً. إلا أن عامل الهشاشة المكتشف في أصل الكلمة، يلفت النظر إلى تغلب معامل الضعف على معامل القوة كأساس للحوار. يهدينا هذا إلى التساؤل: ما الذي يدفع النظام في مصر إلى طلب الحوار أو عرضه؟ هل هو فائض قوته، أي أنه ما عاد في حاجة إلى العنف الصرف الذي مارسه منذ لحظة تأسيسه؟ وإن كانت الإجابة بنعم، فمعناه أن الحوار الوطني، بشكل أو بآخر، هو إعلان عن ثقة كافية في النفس، هذه الثقة التي لا تحتاج إلى إشهار، لكن إعلانها قد يشير إلى وعد بتخفيف حدة البطش، وهو على ما يبدو أقصى ما تتمناه المعارضة من إفراج عن المساجين السياسيين وفرملة عجلة التوقيفات والحبس.

ومع أن فرضية فائض القوة تصلح كتفسير مناسب لدعوة الحوار، إلا أن واقع الأمور يوحي بالعكس. فالنظام المصري، مع الاعتراف بسيطرته الأمنية الثقيلة وشبه الكاملة، ليس في أفضل أحواله. فالتعثر الاقتصادي المدفوع بعوامل داخلية، من بينها سوء الإدارة، عمّقته سلسلة من الأزمات لحقت بالاقتصاد العالمي. وبالتوازي مع تبخر وعود الرفاه المؤسسة على مقايضة الحرية بالاستقرار، فإن هيمنة النظام الدعائية شرعت في الشحوب، بعدما استنفدت بروباغاندا المواجهة المصيرية مع "الإخوان المسلمين" نفسها.

تميل التحليلات إلى أن توجه النظام نحو الحوار، ولو بشكل صُوريّ، يستهدف الداخل، بغية تخفيف حدة احتقان المجتمعي بفعل الأزمة الاقتصادية، عبر الإيحاء بانفتاح السلطة على إمكانات التغيير والقبول بإلحاحها. أما في ما يخص الخارج، فالرغبة في الحوار يمكن تفهمها في سياق حاجة النظام للدعم غربي في مواجهة الضغط الاقتصادي المتزايد، وهو ما لا يمكن ضمانه من دون بوادر استجابة لاشتراطات العواصم الغربية على القاهرة بخصوص ملفات حقوق الإنسان والديموقراطية.

بلا شك يُظهر النظام دلائل على الهشاشة، إلا أنها ليست بالعمق الذي يفرض عليه الانخراط في حوار جدّي. فالحركة المدنية الديموقراطية، وهي الطرف الأبرز المدعو للحوار، تفتقد للقواعد الجماهيرية المنتظمة، ولوسائل التأثير في الجمهور الأوسع، لذا لا تتجاوز منفعة مشاركتها القيمة الدعائية بالنسبة للنظام. وبالشكل نفسه، لا يمكن التعويل على الضغط الغربي، فالتجارب السابقة أثبتت عدم جدّيته واكتفاءه بإصلاحات رمزية.

يوم الأربعاء الماضي، أعلنت إدارة الحوار الوطني، تعيين منسقه العام على رأس لجنة أمناء من خمسة عشر عضواً. جاء الإعلان من طرف واحد، واشتمل مضمونه على تراجع عن معظم التفاهمات التي توصلت إليها السلطة مع الحركة المدنية. وفي ذلك السياق، لا تجد المعارضة ما تقايض به سوى التهديد بعدم المشاركة، ما دامت شروط الجدّية غير متوافرة. ولو نجحت أحزاب الحركة المدنية في التوحد في إصرارها على عدم المشاركة، وفي تمسكها بشروط الجدّية، فربما ستثبت، ولو لمرة واحدة، أن هشاشتها هي المصدر الوحيد لقوتها، وأن الطريق الأنجع لحوار مع السلطة في الظروف الحالية هو رفض المشاركة فيه.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها