الإسلام الروسي الرسمي، وكما في جميع البلدان التي لا تُحكم بإسم المسلمين، ليس سوى واجهة "مسلمة" لسلطة الكرملين، يبالغ في تملقه وأداء فروض الطاعة لها. ويبلغ الأمر بهذا الإسلام الإنزلاق إلى مستوى التهريج الذي ينقلب مأساوياً في ظل حرب بوتين على أوكرانيا، والتي تعيد إلى بيوت المسلمين الروس توابيت أكثر مما إلى بيوت الأنحاء الروسية الأخرى، كما تقول بعض إحصاءات (على تعددها وتضاربها) القتلى والأسرى الروس في الحرب. ويرى محللون أن الكرملين يبذل جهوداً لتجنيد المتحدرين من مناطق القفقاز التي تتميز بمعدل ولادات أرفع مما هو في المناطق الروسية الأخرى، وبنية جسدية مميزة أيضاً لأجيالها الشابة. ويستشهد هؤلاء المحللون بنداء بوتين للحشد للحرب "...أنا داغستاني، أنا شيشاني، أنا إنغوشي..."، وبعقد جلسة لمجلس الأمن القومي الروسي عشية الحرب في عاصمة الشيشان غروزني، وكذلك بحملات التجنيد الإعلامية المكثفة في القفقاز.
تهريج "فتوة" الشيشان رمضان قاديروف دفعه إلى الإعلان أواخر الشهر المنصرم عن جائزة مليون دولار لمن يرشده إلى مواقع الشيشان المعارضين في أوكرانيا. وهؤلاء اصلاً لا يخفون لا مواقعهم، ولا إسم وحداتهم، ولا عزمهم على الإتفاق مع السلطات الأوكرانية لتنظيم مشاركتهم المسلحة ضد الجيش الروسي في أوكرانيا. كما ينشر قاديروف صور الالاف من مقاتليه على الجبهة في أوكرانيا، وهم لا يتجاوز عددهم المئات حسب المصادر، وينشر شرائط فيديو مفبركة لمقاتليه وهم يتجولون في شوارع كييف المدمرة. ويصرح بأنه لو كان محل بوتين لما جعل المرحلة الثانية من "العملية العسكرية الخاصة" تقتصر على الدونباس فقط، بل لجعلها تستهدف إحتلال أوكرانيا كلها. هذا التهريج مجتمعاً قد يكون وراء قرار الكرملين حظر الإعلام الرسمي الإستشهاد ب"تهريجات" قاديروف دون تصريح من السلطات الرسمية، حسب قناة التلفزة الإسرائيلية التاسعة الناطقة بالروسية في 4 من الجاري.
لكن تهريج قاديروف في الإنبطاح أمام الكرملين، لا يصمد أمام درر تملق مفتي الديار الروسية، رئيس"الإدارة الروحية المركزية لمسلمي روسيا" طلعت تاج الدين. فقد خصص موقع صحيفة realnoevremya التترية الإلكترونية بمناسبة السنوية ال40 لتولي تاج الدين موقعه في العام 1980 (كان في سن 31 حينها) نصاً كاملاً لدرر المفتي وتصرفاته التي لا تقل عنها إثارة للسخرية المبكية.
يقول كاتب النص بأنه يخرق التسلسل الزمني لدرر المفتي ويعود إلى العام 2003، حين كان جورج بوش الإبن يستعد لغزو العراق، وكان تاج الدين في زيارة لبغداد حينها. فما كان من تاج الدين إلا أن أعلن أنه سيبقى مع الشعب العراقي وصدام حسين "لمواجهة كل صعوبات الحرب"، لكن لم يمر أسبوع إلا وكان المفتي قد أصبح في روسيا. وحين دخل الأميركيون العراق في نيسان/أبريل من ذلك العام أعلن تاج الدين "الجهاد" ضد واشنطن وهو يلوح بالسيف في مهرجان مناهض للحرب.
تاج الدين الذي إقترح إستبدال روسيا ب"روسيا المقدسة" في تسمية الهيئة التي يرأسها، إقترح على بوتين في العام 2015 ضم سوريا وإسرائيل إلى روسيا، كما تم ضم القرم، وذلك من أجل حل الصراع المزمن في الشرق الأوسط. ولم يكتف المفتي بضم سوريا وإسرائيل، بل إقترح على بوتين أيضا: "فلتبلغ روسيا مكة"!
موقع الخدمة الروسية في شبكة الإذاعة والتلفزة التركية الرسمية TRT نشر آخر آذار/مارس المنصرم نصاً بعنوان "البعد الإسلامي للحرب الروسية الأوكرانية". يقول الموقع بأن مؤسسات الإسلام الرسمي وقادة الرأي المسلمين الروس لا يعملون لصالح المسلمين في روسيا، بل لصالح روسيا بوتين. ويشير إلى مؤتمر"علمي ـــــــ عملي" عقدته هذه الهيئات في 16 آذار مارس المنصرم بعنوان "الخدمة الروحية والرسالة الاجتماعية للمنظمات الدينية في سياق تكوين الهوية المدنية لسائر روسيا"، خرج بتبرير لاهوتي للحرب على أوكرانيا وإعتبارها "جهاداً". ويرى أنه، ليس الشخصيات الدينية الرسمية فقط، بل وبعض الدعاة الدينيين الإسلاميين المعروفين، أيدوا الحرب ضد أوكرانيا وضد إخوتهم في الدين المقيمين فيها.
رأى الموقع أن هذا الحشد لم يكن ليجتمع في الظروف العادية، ورد نتائجه "المشينة" لسببين. في الأول يرى أن المسلمين يتم تجنيدهم للقتال من أجل نظام ينتهج باستمرار سياسة إسلاموفوبيا تستند إلى أيديولوجية تتمظهر في تأييد قوى الإسلاموفوبيا في جميع أنحاء العالم، إبتداءاً من تصرفات الصين وميانمار تجاه الأويغور والروهينغا، وإنتهاءاً بقوى الإسلاموفوبيا في الغرب. وفي الثاني رأى أن المسلمين يُجندون لحرب تم تبريرها غير مرة بضرورة: "إستعادة الأراضي الروسية التاريخية"؛ "إعادة توحيد الشعب الروسي"؛ "حماية المؤمنين والمقدسات الأرثوذوكسية". ويرى أيدولوجيو هذه الحرب أنها تستهدف ضم عشرات ملايين السلاف الأرثوذوكس، بما يؤدي، بين أمور أخرى، إلى التعويض عن تراجع عدد الروس ليصبح قوة موازنة "لأسلمة" ديموغرافيا الإتحاد الروسي. أي، بكلام آخر، على مسلمي روسيا أن يقاتلوا مباشرة ضد مصالحهم، وليس فقط من أجل الحفاظ على وضعهم كمقموعين، بل ومن أجل تشديده على المدى الطويل.
وفي المقارنة بين وضع المسلمين في كل من روسيا وأوكرانيا، يقول الموقع بان المراكز والجمعيات الإسلامية المستقلة عن الدولة تعمل وتفتتح بحرية في أوكرانيا، وتصدر عشرات الكتب الإسلامية الممنوعة في روسيا بموجب القانون الذي يحظر أيضا على المسلمين نصب الخيم في مدنهم وتوزيع المناشير. وبوتين "الداغستاني، الشيشاني، الإنغوشي"، وفي خطابه ل"الأمة" عشية إعلان حربه، لم ينس أن يشير إلى أن أوكرانيا تعتمد في مواجهتها روسيا بالقرم على من سماهم "المتطرفين الإسلاميين" بعرف القانون الروسي، وهم في حقيقتهم مواطنون أوكران عاديون بمنظور القانون الأوكراني. ويقول الموقع بأن مفتي أوكرانيا يشير في خطبه إلى تمتع المسلمين بالحد الأقصى من الحرية الدينية المتاحة في مجتمع مدني، وإلى حرمان المسلمين الروس منها وتعرضهم للقمع المنهجي الذي جعل كثيرين من قادة الرأي عندهم يهجرون روسيا ويطلقون في الخارج موقع "صوت الإسلام" الإلكتروني.
موقع "صوت الإسلام" هذا نشر في اليوم التالي لإعلان بوتين حربه على أوكرانيا نصاً بعنوان "الحرب في أوكرانيا: ما الذي على مسلمي روسيا أن يقوموا به؟". ينصح الموقع الروس عموماً بعدم الذهاب إلى الحرب "لا تطوعاً ولا تجنيداً"، وأن يتفادوا ذلك بالتخفي، بالهجرة وسواها، وأن يمنعوا أبناءهم وأقاربهم من الذهاب إلى هذه الحرب. ويتوجه بهذه النصائح إلى المسلمين الروس بشكل خاص، لأن أسماء أوائل الأسرى وعائلاتهم تشير إلى أنهم من المسلمين وينشر صور هؤلاء في مقدمة النص.
ويرى الموقع ان روسيا بدأت بالنهوض ضد الحرب، ويشير على الروس، وخاصة الشباب المسلم المقيم في كبريات المدن الروسية، المشاركة في نشاطات الإحتجاج التي، في حال تعاظمها، يمكن أن تؤثر في وقف الحرب كما كان في حرب الشيشان الأولى.
موقع الخدمة القفقازية في الفرع الأوروبي ل"الحرة" الأميركية kavkazr نشر مطلع آذار/مارس المنصرم مقابلة مع رئيس حكومة إشكريا ( تسمية معارضي قاديروف للشيشان) في المنفى أحمد زكاييف. تحدث الرجل عن حرب روسيا على أوكرانيا، ورأى فيها "بداية النهاية للإمبراطورية الروسية"، وأعلن عن إستعداد الشيشان المقيمين في أوروبا لخوض الحرب ضد الجيش الروسي في أوكرانيا. وقال بأنه على إستعداد لتوقيع إتفاقية للتعاون بين أوكرانيا وإشكريا لتشكيل وحدات من الراغبين المشاركة في صد الجيش الروسي. واعتبر أن هذه الإتفاقية ضرورية ليكون المتطوعون الشيشان محميين بإتفاقية جنيف، وأضاف بأنهم سيكونوا سعداء بالمشاركة في "حرب الشعب الأوكراني العادلة".ِ
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها