الثلاثاء 2022/05/10

آخر تحديث: 07:31 (بيروت)

بوتين مؤرخ النصر على هتلر

الثلاثاء 2022/05/10
بوتين مؤرخ النصر على هتلر
© Getty
increase حجم الخط decrease

خلافاً لما كانت تتوقعه دوائر المخابرات الغربية من أن بوتين قد يعلن في كلمته بمناسبة سنوية النصر على ألمانيا النازية، إعلان الحرب رسمياً على أوكرانيا، أو يكتفي بإعلان التعبئة العامة في روسيا. لكنه في كلمته المقتضبة أمام العرض العسكري في الساحة الحمراء لم يعلن شيئاً من ذلك، بل إكتفى بالقول أن روسيا وجهت ضربة إستباقية إلى أوكرانيا، وأشاد بمن سقط وجرح في الحرب على أوكرانيا، ورفعهم إلى مصاف أسلافهم في الحرب "الوطنية العظمى"، كما تسمي روسيا الحرب العالمية الثانية. 

النصر الذي كان يعد نفسه بالإحتفال به مع النصر على النازية بإقامة إحتفال وعرض عسكري في موسكو وكييف، أطاحت وقائع جبهات القتال بتوقعاته وحصرت إحتفالاته بموسكو وعواصم الأقاليم الرئيسية. ويبدو أنه هو نفسه قد إعترف بمأزق حربه "الخاطفة" على أوكرانيا، ولم يتمكن جيشه من إحتلال كييف خلال 72 ساعة، كما كانت تتوقع حتى الدوائر الغربية، بل ويحدق به الآن خطر الإنزلاق إلى حرب طويلة، كما إنزلقت قبله القيادة السوفياتية إلى الحرب الأفغانية التي كانت تتوقع نهايتها خلال شهر أو شهر ونصف الشهر "على الأكثر". ونفياً لما كان يشاع بأن بوتين يسعى لتحقيق نصر ما قبل 9 أيار/مايو أعلن وزير خارجيته لافروف في حديث إلى شبكة تلفزة إيطالية مطلع الشهر الجاري بأنه، وخلافاً للتقليد السوفياتي القيام بأمر "كبير وصاخب" بمناسبة أي عيد، الجيش الروسي لن يتصنع ضبط عملياته مع أي تاريخ، وخاصة مع يوم "عيد النصر". وأضاف لافروف بما أثار سخرية العالم من أن روسيا لا تطلب من الرئيس الأوكراني الإستسلام، بل تريد منه إصدار الأمر إلى العسكريين والمواطنين الأوكران التوقف عن المقاومة.

ليست أنباء جبهات القتال فقط ما عكّر أجواء إحتفال بوتين بيوم النصر، بل حتى أحوال الطقس لم تكن مؤاتية لتحليق طيرانه في سماء الساحة الحمراء، ومنعت من الإقلاع أيضاً "طائرة يوم القيامة"، مفاجأة بوتين ليوم الإحتفال. فقد نقلت الخدمة الروسية في "الحرة" الأميركية عن رويترز في 6 من الجاري قول وزارة الدفاع الروسية بأن طائرة "إيل ــــ 80" هذه معدة لإجلاء القيادة العسكرية العليا وإدارة القوات المسلحة في ظروف حرب شاملة قد يستخدم فيها السلاح النووي.

يوم الإحتفال بالنصر نغصته ايضا أحوال الطقس عينها حيث تسببت الرياح بتوسيع الحرائق في الشرق الروسي وقضائها على مئات الأبنية السكنية، وعدم تمكن الجيش من إخمادها لإنشغاله في الحرب على أوكرانيا. وإضيفت إلى الحرائق صباح يوم الإحتفال أنباء قذف السفير الروسي وزوجته في بولندا بالطلاء الأحمر أثناء وضع إكليل زهور على نصب الجندي السوفياتي "المحرِر". كما فوجىء بوتين صباح الإحتفال بخروج أحد أوسع المواقع الإعلامية المحسوب عليه Lenta.ru بنص يحميل تعابير صادمة معادية للحرب: "بيّن الجيش الروسي بأنه جيش لصوص"، " تحول فلاديمير بوتين إلى ديكتاتور مثير للشفقة ومصاب بجنون العظمة"، ""لا يمكن للحرب أن تغطي الإخفاقات الاقتصادية. يجب على بوتين أن يرحل". تحمل رئيسا قسمين في الموقع المسؤولية عن نشر النص، وأنهيا النص بالقول: "نبحث عن عمل ومحامين، وقد يكون عن منفى سياسي أيضاً، حسب "الحرة".

يخوض بوتين صراعاً مريراً على الصعيدين الداخلي والخارجي لتفصيل يوم النصر على مقاس سرديته  السوفياتية لتاريخ الحرب العالمية الثانية. في إطار حربه المعلنة على الغرب وقيمه "الهدّامة"، وظف بوتين سنوية النصر لفتح جبهة صراع على تاريخ الحرب العالمية الثانية، يخوض فيها معركة ضارية ضد ما يسميه تشويه الغرب لتاريخ الحرب ومحاولته مشاركة روسيا إنتصارها. بفضل روسيا وحدها، ولا سيما الروس دون سواهم من الشعوب السوفياتية، تم النصر على النازية، ولم يلعب الغرب الذي ماطل في فتح الجبهة الثانية حتى العام 1944 سوى دورٍ مساعدٍ لها فقط. وعلى العكس من اتفاقيات ميونيخ الخيانية لأوروبا العام 1938، لم تكن معاهدة ستالين-هتلر بعد عام سوى تمديد المهلة للإتحاد السوفياتي لإنجاز إستعداداته للحرب، وليست لتقاسم بولندا والبلطيق. ولم يكن قانون  Land Lease الأميركي سوى رشوة لستالين وتشرشل لمواصلة الحرب مع هتلر، وليس مشاركة من الولايات المتحدة بتحمل قسم وازن من الأعباء المادية للحرب تضمنت السلاح والذخيرة والاليات العسكرية والطعام. 

يصادر بوتين الداخل الروسي برمته بما يسميه الروس "جنون النصر"، وليس النصر الذي جعله سنوياً بعد أن كان يوبيلياً كل 10 سنوات. في سهوب هذا الجنون ترعرعت "وطنية" بوتين التي يصادر بإسمها الحياة السياسية والإجتماعية الروسية، ويبني قلعته المحاصرة بكل أشكال الكراهية الغربية لروسيا. في السنوية 60 للنصر العام 2005 حضر إحتفالات الساحة الحمراء كل من جورج بوش الإبن وجاك شيراك والرئيس الصيني وسواهم من قادة العالم، لكن إحتفالات السنوية الحالية لم يحضرها أحد من قادة العالم، بل لم يدع بوتين أحداً لحضورها لأنها "ليست سنوية يوبيلية".

صحيفة الأعمال السياسية الرصينة vedomosty نشرت العام 2019 نصاً بعنوان "النصر العظيم لفلاديمير بوتين"، وأرفقته بآخر ثانوي "الدفاع عن نتائج وإنجازات الحرب العالمية الثانية، هو ما يحاول رئيس روسيا بناء موقعه عليه في العالم المعاصر". النص جاء تعليقاً على مقالة لبوتين كان ينوي نشرها، لكنه استبقه بشرح مقولاتها في محاضرة ساعة كاملة ألقاها على مسامع قادة الجمهوريات السوفياتية السابقة في إجتماع لهم. 

يقول كاتب النص بأنه، عدا الاستشهادات من الأرشيف المغلق بوجه الجمهور، لم يأت بوتين بأية أفكار جديدة. فهو يعيد بصياغته الشخصية كل ما لقنوه له في المدرسة السوفياتية. خلال 20 سنة من وجوده في السلطة لم يجد بوتين تبريرات أخرى لسياسته الداخلية والخارجية، وبدلاً من تقديم أي رؤية لمستقبل روسيا أو نتائج حكمه، فضل التركيز على الدفاع عن إنجازات حرب إنتهت منذ 75 سنة( في ذلك العام). 

المجلس الروسي للعلاقات الدولية RIAC نشر في السنوية 70 للنصر نصاً بعنوان "الحرب العالمية الثانية وتبدل الأجيال: التروما، الأسطورة والذاكرة". تقول كاتبة النص بأن ذاكرة الحرب مهمة في أيامنا للحفاظ على السلام، لكنها تصبح خطرة حين تستخدم لإحياء الإنقسام التاريخي بين روسيا والغرب، وأسطرة أحداث الماضي أو تحويلها إلى أداة للخطاب السياسي. في هذه الحالة يصبح من السهل ظهور أسطورتين: أسطورة الأجيال و أسطورة البطولة.

في الأولى ترى الكاتبة أن الحدود أخذت تتلاشى بين جيل الحرب وأحفادهم، وأصبح الأحفاد يساوون دورهم التاريخي بدور أجدادهم: طالما أن الأجداد إنتصروا في الحرب، نحن منتصرون أيضاً. النصر صنعه الأجداد حين لم يكن الجيل الشاب قد ولد بعد، وهم كانوا يسعون لضمان السلام وعهدوا للشباب المحافظة عليه. واستمرار الأحفاد بالإحتفال بيوم النصر هو ذروة اللاإحترام للأجداد، مما سيخلط تاريخ الحرب بالسياسة المعاصرة، أو يستخدم الإستعارات الحربية ضد أخصامهم السياسيين الحاليين.

في الثانية ترى الكاتبة أن إنتشار موضوع الحرب في الثقافة الشعبية يجعل الشباب يفكرون بأنهم أبطال في الأساس، طالما أن أجدادهم كانوا كذلك. وكلما استهوت الألعاب والأفلام الحربية الشباب، كلما إبتعدوا عن الأجداد وسهل عليهم نسيان ترومات الحرب وإسباغ الطابع الرومانسي عليها. وطالما كان بوسع الشباب أن يكونوا أبطالاً في الحرب كما أسلافهم، فما المانع من إشعال الحرب.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها