الإثنين 2022/04/25

آخر تحديث: 01:50 (بيروت)

فرنسا في طور الانعزال..ثم الانفجار

الإثنين 2022/04/25
فرنسا في طور الانعزال..ثم الانفجار
increase حجم الخط decrease

النهاية المؤلمة لرحلة قارب الهجرة، تثير الحزن على شقاء أولئك البؤساء الذين أنهى البحر حلمهم، وتعيد الى الاذهان حقيقة أن سبل المهاجرين غير الشرعيين، تتقطع يوماً بعد يوم، بحيث تبدو  وجهتهم الاوروبية، وكأنها في كوكب آخر، وهي عبارة عن قلاع حصينة،  مسيجة بالاسلاك الشائكة، والبوابات الحديدية، التي تمنع التواصل مع سكانها المتوجسين، الذين يزداد خوفهم على أنفسهم، ويتضاعف ميلهم الى الانعزال..حتى ولو أدى بهم الى إحياء فصل من تاريخهم الحديث الذي لطخته تجارب فاشية وعنصرية مشينة.

ولعل المأساة التي حلّت بركاب قارب الموت، جنبت المهاجرين اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين، الاصطدام بذلك العالم الاوروبي المضطرب، الذي لم تخفف حربه الجديدة، في اوكرانيا، من غلوائه، بل فاقمت غربة شعوبه وعزلتها، وأسهمت في تكثيف البحث عن أسوأ دروب الخلاص، وأخطرها، والتي سبق أن لجأت اليها، ودفعت ثمنها باهظاً، بالارواح والأموال.. قبل ان تستعيد رشدها، عندما فتحت بوابات الحكمة والهجرة في آن واحد.

ربما لم يكن ركاب القارب الذين ابتلعهم البحر، يتطلعون الى فرنسا بالذات، لكن الاخبار الفرنسية، التي وصلت الى مختلف شواطىء المتوسط، كانت مخيفة، ومعاكسة لكل التوقعات، بأن قصر اليمين الاوروبي المتطرف ومرشده الاعلى في الكرملين، بسط رسالته في بلد جديد من القارة العجوز، وإكتسب نفوذاً إضافياً، وشرعية شعبية واسعة، تبعث بالفعل أفكار النازية وأدواتها وأساليبها، التي كان يفترض ان الفرنسيين والاوروبيين عامة محصنون ضدها.

ليس من السهل، لا على المهاجرين ، ولا على المتطلعين الى أوروبا بوصفها القارة الحلم ، بالمقارنة مع بلدانهم المتخلفة، أن يكتشفوا أن اليمين المتطرف في فرنسا يقترب بسرعة فائقة نحو تمثيل نصف عدد السكان البالغ 67 مليون نسمة..النسبة التي حصدتها بالامس مرشحة ذلك اليمين، مارين لوبان، أي 42 بالمئة من أصوات الناخبين الفرنسيين، كانت الصدمة الاكبر، التي أحدثتها الانتخابات الرئاسية الفرنسية. فهذه الكتلة الشعبية كانت قبل خمس سنوات فقط تمثل 33 بالمئة من الفرنسيين، بعدما ظلت لعقدين ماضيين تناطح لتخطي عتبة العشرين بالمئة.

ربما لم تكن نسبة ال42 بالمئة التي حصدتها مارين لوبان، وتوجتها كزعيمة تاريخية لليمين المتطرف الفرنسي، مفاجئة تماماً، إلا من زاوية كونها تعكس تجاهلاً، أو تساهلاً مع طبيعة الحملة العسكرية والسياسية الروسية في القارة الاوروبية، التي تجسدت على نحو فظ في غزو أوكرانيا، وهو أثار الحرج لدى الكثير من أحزاب وأفكار اليمين المتطرف الاوروبي، الذي بات يجد صعوبة في الدفاع عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ما جرى في فرنسا يزيل بعضاً من هذا الحرج، ويعيد إنتاج تلك القوة الفاشية الاوروبية، وإشهار علاقاتها "الفكرية"الوثيقة مع الكرملين.

صحيح أن فرنسا، التي أستقبلت العدد الاقل من المهاجرين الفارين من جحيم سوريا او العراق او افغانستان او اليمن او حتى دول شمال افريقيا، مريضة أصلاً بمسلميها وبتعاطيها السيء مع الاسلام، أكثر من أي بلد أوروبي آخر، لكن خيارها اليميني المتطرف الزاحف نحو السلطة في الدورة الرئاسية المقبلة بعد خمس سنوات، لا أبعد، هو أشبه بذريعة إنتهازية، لأن بوتين لا يشن حربا صليبية، ولا يعادي الاسلام والمسلمين بقدر ما يناهض الغرب الاوروبي والاميركي وقيمه وحضارته.

الثوران الفرنسي الذي عبرت عنه المرشحة لوبان، هو نتاج طبيعي لمسار تسارع في العقدين الماضيين، عندما تفكك اليسار الفرنسي التقليدي، الاشتراكي والشيوعي، وحل محله يمين إنتهازي مفرغ من أي محتوى سياسي عميق، ما مهد السبيل لنمو التطرف وتوسعه، مستفيداً من ظواهر تطرف إسلامي بشعة، لكنها أقل بشاعة مما شهدته دول أوروبية أخرى تتفوق على فرنسا بمناعتها الوطنية وقدرتها الاستيعابية وسلطتها الذكية.

المؤسف في تربع لوبان على كتلة شعبية تقرب من نصف الشعب الفرنسي، هو  فقط لان فرنسا، التي تتوق الى المزيد من الانعزال،  ذاهبة نحو الانفجار من الداخل، من دون وسائل الحماية الكافية لهويتها الوطنية وديموقراطيتها المهددة بموجة يمينية متطرفة كاسحة.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها