الخميس 2022/04/14

آخر تحديث: 15:44 (بيروت)

عن الحرب الاهلية..التي يتجاوزها صندوق النقد

الخميس 2022/04/14
عن الحرب الاهلية..التي يتجاوزها صندوق النقد
© Getty
increase حجم الخط decrease

من الفكرة البسيطة القائلة أن لبنان ما زال يدفع ثمن الحرب الاهلية التي حلّت بالامس ذكراها ال47، يمكن المغامرة في تصنيف ورقة وصايا صندوق النقد الدولي الاخيرة، بإعتبارها أول وأهم خريطة طريق لطي صفحة تلك الحرب ووقف خسائرها وأضرارها، وفتح صفحة إعادة بناء الاقتصاد (والاجتماع) اللبناني من نقطة الصفر التي توقف عندها في منتصف الشهر الرابع من العام 1975.

لا يعني ذلك أن السنوات  ال47 الماضية، كانت خالية من المحاولات لاعادة البناء هذه، لكن تلك المحاولات تركزت في مراحلها الاولى على وقف النار وتفكيك خطوط التماس، كانت تقتصر على ترميم ما تهدم وتعمير ما تقتضيه ظروف الانتقال الى مرحلة السلم الاهلي، بما فيها من رشاوى لأمراء الحرب ومليشياتها، المدعوين الى المشاركة في دورة اقتصادية سلمية، من دون أي تعديل في قوانين وبرامج عمل الدولة ومؤسساتها ومرافقها العامة. كانت تلك العملية أشبه بتركيب ألواح إعلانية جذابة، على قواعد قانونية ومؤسسية مهتزة، فاقترب لبنان أكثر من مرة من الافلاس، وتنقل نظامه السياسي من أزمة الى أخرى، حتى كان الانهيار الراهن، بمثابة عملية تحلل شاملة لبنية عرجاء، او حتى جوفاء، دهمت غالبية الشعب اللبناني بالفقر والجوع.

ورقة صندوق النقد الدولي المعلنة الاسبوع الماضي، مثل صفعة مدوية  توجه الى النظام اللبناني، وتهدف الى إيقاظه من سبات الاعوام ال47 الماضية، وحلولها الترقيعية والتلفيقية، وتحذره من خطورة الاستمرار في الاحتيال على الجمهور اللبناني، وعلى المجتمع الدولي، وتنذره بالانحدار من التعثر الى الافلاس المالي، الذي يؤدي بالضرورة  الى تفكك الدولة ووحدتها الوطنية، وربما أيضا حدودها الدولية المعترف بها.

لم ترد تلك العبارات حرفياً في ورقة صندوق النقد، لكنه كان يمكن قراءتها بسهولة بين الاسطر، التي إحتوت على توصيات لا تقدم في العادة الى دول متعثرة، عاجزة عن إدارة شؤونها الاقتصادية وتسديد ديونها المالية، بل الى دول تحررت للتو من الاستعمار ونالت استقلالها الوطني حديثاً وشرعت في البحث عن تعريف لنظامها الاقتصادي وتحديد لوظيفة مؤسساتها السياسية في الموازنة بين أولوية الخدمات وقيمة العائدات (الضريبية)، وفي المفاضلة بين القطاعات الانتاجية ودورها في عملية التنمية..وفي صياغة القوانين التي تنظم هذه العملية الاقتصادية بما يحول دون أي إضطراب إجتماعي.

القراءة السياسية للورقة، لا تترك سوى إنطباع وحيد: صندوق النقد الدولي، يفارق دوره التقليدي السيء الذكر،الذي كانت وفوده الرسمية تؤديه في جميع الدول المتعثرة، والذي يركز على توصية رئيسية وحيدة، تنص على رفع الدعم وتحرير العملة ورمي الملايين من الناس في الشارع. في الحالة اللبنانية، لاحظ الصندوق كما يبدو ان اللبنانيين في الشارع أصلاً ، والعملة الوطنية محررة بأسوأ شكل ممكن، والدعم مرفوع فعلاً عن 90 بالمئة من السلع الحيوية، والقطاع المصرفي العام والخاص خارج الدولة والقانون. وعليه، جاءت الورقة لتحدد المبادىء الاولية لوظيفة دولة في طور التشكل ، ودور القطاع المصرفي ومسؤوليته و الرقابة على عملياته، والحاجة الى إصلاحه..بالتزامن مع تنظيم وتوفير الخدمات التي يقدمها القطاعان العام والخاص.

التدقيق في الورقة يدفع الى الشك في أنها صادرة عن المؤسسة الدولية الأهم المكلفة بحراسة النظام الليبرالي وتعميمه في مختلف أنحاء العالم. ثمة لغة اقتصادية (وبالتالي سياسية) غير مألوفة، تخاطب الدولة اللبنانية المتلاشية، ليس فقط بصفتها مرجعاً، وعنواناً للتواصل، بل أيضا بوصفها مركزاً محورياً لوضع سياسات وإصدار قرارات تأسيسية ل"قطاع عام" يتحمل مسؤولية بناء دولة ما بعد الحرب الاهلية، ومن نقطة الصفر تماما.

لم يقارب الصندوق، السياسة اللبنانية بمعناها التأسيسي المنشود، ولم يتطرق الى السلطة السياسية وسبل إعادة تكوينها، أو على الاقل إصلاحها. لكن الاحترام المفترض لمبدأ الفصل بين السلطات، لا يلغي حقيقة أن الورقة هي بلا شك أهم ورقة سياسية تلقاها لبنان منذ نهاية حربه الاهلية..مع أنها مجرد توصيات، ما زال يمكن أن يمزقها أمراء تلك الحرب وورثتهم، لا سيما وأنها تشترط ضمنا، وحسب تعبير أحد كبار مسؤولي الصندوق، إصلاحاً عاجلاً للنظام السياسي اللبناني نفسه، وإلا فأن لبنان سيكون، بعد أقل من عشر سنوات، على موعد مع أزمة أسوأ وأخطر من تلك التي يعيشها اليوم.

الورقة ليست مجرد لائحة شروط مفصلة وضعها دائن على طالب قرض بقيمة 3 مليارات دولار، ووعده بأن يعطيه شهادة حسن سلوك.. هي أشبه ما تكون ب"مانيفستو سياسي"، يحتوي على أول برنامج خارجي لإصلاح النظام اللبناني بالكامل..منذ إنتهاء الحرب الاهلية.    

           

 

  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها