الإثنين 2022/12/05

آخر تحديث: 06:40 (بيروت)

محمد أبو الغيط.. الكتابة حتى السطر الأخير

الإثنين 2022/12/05
محمد أبو الغيط.. الكتابة حتى السطر الأخير
محمد أبو الغيط
increase حجم الخط decrease

لم يكن قد بقي لأصدقاء محمد أبو الغيط الكثر إلا تلك السطور المشحونة بالحب، يصلون له كي يشفى. للشاب المصري اسم معروف. طبيب اختار الكتابة والصحافة الاستقصائية ولمعت موهبته بسرعة، ثم هاجمه المرض الخبيث قبل أكثر سنة، واختار أن يحكي عنه مستعيناً بموهبته، بالكتابة.

الفيسبوك مكان آمن لتدوين التجارب القاسية مع هذا المرض. نلتقط صدفة خيطاً لحكاية صديق افتراضي، من منتصفها أحياناً. نرجع فيها ونتقدم. ثمة أكثر من مجرد فضول، أو تعاطف. هذه القصص يرويها أصحابها لأسبابهم، ليواجهوا مرضهم بشجاعة أكبر، لكي لا يشعروا أنهم وحدهم. لا نعلم. لكننا نتابع، وفي داخلنا أمل ما بأن تتحقق النهاية السعيدة، وبأن نتصل قليلاً بإنسانيتنا كما هي، من دون ضجيج. أن نسمع صوتنا الداخلي. أن ننعم ببعض هدوء من قلقنا الدائم. نتفاعل أو نتابع بصمت. نصير ننتظر الصديق الذي لم نلتقه قط، كي يطمئننا.. علي، مثلاً، نادراً ما كان جدياً وهو يروي قصته بصوره، وبتعليقاته، يتهكم فيها على نفسه وعلى العلاج الكيماوي وعلى خسارته للحيته، وعلى نحوله. نرى بين حين وآخر والدته جالسة في زاوية الغرفة، تسهر معه، وتسهر عليه، ونرى أحياناً وجهها وشماً مرسوماً على ساعده. ونفرح له حين يقول إنه أنهى علاجه وأن لحيته عادت. لور كتبت أن شعرها الذي نبت من جديد، عاد أشقر، كما كان في طفولتها. صديق لريما التي أخذها المرض، يحكي عن هداياه العشوائية لها في عيد ميلادها، والتي كانت ترجمة حرفية لهدايا في كلمات أغنية لفيروز. ريما كتبت أن السرطان ليس معركة وأنها ليست محاربة. الموت بسبب المرض ليس هزيمة. بشير هلال اكتفى بجملة واحدة: "يكفي أنني لن أرى زهر اللوز أو أكثر". انقطع عن الفيسبوك إثرها، ورحل بعد أشهر، وبقيت حيث هي، معلقة على شاعريتها وقسوتها، كأنها آخر ما حفره بيده على شاهد قبره. كما هي منذ أكثر من سبع سنوات، معلقة في فضاء إلكتروني بات ألبوم صور الناس، وذكرياتهم.. جدراياتهم.

كل يحكي حكايته كما يحب. ليست كل النهايات سعيدة. محمد أبوالغيط دخل قبل أيام في غيبوبة. قبل غيبوبته، اختار أن يكتب ما دام قادراً على الكتابة، أو حتى أن يملي على زوجته إسراء ما اختار أن يقوله في وصف يومياته. اختار شغفه الأول، أن يكتب أدباً صرفاً. بموهبة فذة، سرد يومياته بأمانة قاسية عبر نص طويل نشره على مقطعين في صفحته. وصف آلامه كما لو أنه واحد آخر يقف قرب السرير ويسجل ما يراه. وصف تقيؤه المتكرر وبحثه عن نفس لا يستطيعه، وهلوساته وتلاوته الشهادتين في كل مرة يصل فيها إلى الموت ويعود. سجّل الأوجاع المرعبة حين يتهالك الجسد عضواً فعضواً، لا ليفيد الطب على الأرجح، بل ليُغني الأدب، وليشبع شغفه. استغل الأديب الذي فيه المرض كي يترك شهادة بارعة في وصف الاحتضار، من الداخل ومن الخارج. تفوق الكاتب فيه على المريض. تفوق الحبيب فيه والأب والإبن والصديق على الممدد في السرير. تلاشى شخصه الرقيق خلف ناسه الذين يحيطون به. حكى عنهم أكثر مما حكى عن نفسه وعن مرضه. كتب روايته كما يريد واختار أن يذهب فيها إلى النهاية. ولأن الروايات لا تكون عظيمة من دون قصة حب، فقد حكى قصة حبه مع إسراء، من لقائه بها أول مرة، إلى اللحظة التي تفتح فيها عينيها على صراخه، وتساعده على أخذ نفس يبدو مستحيلاً. بدت إسراء بطلة روايته الأولى، وهو الثانوي فيها. كتب عن آخرين. عن أمه وأبيه وطفله، أبطال قصته.

بالأدب قرر محمد أن يواجه مرضه. بشغف خالص اعترض على عبث لم يمنعه عن الكتابة. هل انتصر على السرطان؟ هل هي حرب أصلاً هذه التي بين المريض ومرضه؟ نحارب في سبيل قضايا. المرض ليس قضية. لا ننتصر في وجهه أو نهزم. هكذا قالت ريما. ليس معركة. هو تجربة لم يشأها صاحبها، لكن ربما يتعلم منها، فإن رحل أو نجا، لا يكون قد هزم أو انتصر. يكون قد وجد في قلبه مكاناً أكبر للحب. محمد كتب عن الحب.

"في ظل الغيب" لفّ أصدقاء محمد سريره بالدعاء له.. "بشفاء لا يغادر سقماً". حكوه وحكوا عنه. باركوا له كتابه الجديد، الذي صدر قبل أيام، عنوانه "أنا قادم أيها الضوء". صلوا له. مازحوه. وقفوا بقربه وسندوا كتفه. كتبوا معه روايته العظيمة، كي لا يكون آخر سطر كتبه هو السطر الأخير فيها. صباح الإثنين، أضافت إسراء سطراً آخر على الحكاية. نعته. ذهب إلى إلى الضوء، كما تنبأ.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها