الأحد 2022/12/04

آخر تحديث: 06:52 (بيروت)

نواب التغيير..وغطاؤهم الشعبي المفقود

الأحد 2022/12/04
نواب التغيير..وغطاؤهم الشعبي المفقود
increase حجم الخط decrease

 

يتراوح أداء النواب التغييريين داخل البرلمان بين الإحتجاج، والمشاغبة، وتقديم عراضات قانونية، والمزايدة أحيانا في السيادة وحقوق المودعين، وإظهار الموقف المختلف والمتمايز عن الآخرين.  مع إصرار بعضهم على تقديم نموذج جديد وفريد في العصامية السياسية والمراقبة البرلمانية والنزاهة الأخلاقية والتقيد الدقيق بالقانون وأصول العمل البرلماني. ظناً منهم أن ذلك كله يشكل مدخلاً للتغيير الفعال ويحقق الاستقامة السياسية.  لكن، رغم  كل ذلك، فإن حضور النواب التغييريين في المشهد السياسي وقدرة التأثير فيه يكاد يكون معدوماً.

وقد زاد من هامشيتهم، عجزهم عن توحيد مواقفهم، أي العجز عن تجاوز أمزجتهم الشخصية ليشكلوا قوة دفع فاعلة،  وغياب استراتيجية تتطابق مع حماسهم الثوري وتعهداتهم الانتخابية، وعدم تمييزهم بين المعيار الأخلاقي والموجبات الواقعية للفعل السياسي نفسه.  يضاف إلى ذلك، وجود خلل فاضح في مؤهلات بعضهم إن لم يكن أكثرهم في أن يكونوا نواب أمة عاديين، فضلا عن أن يكونوا نواب تغيير، أي نواباً ألقوا على عاتقهم مهمة لم يفهموا خطورتها وجسارتها ولم يكونوا بمستوى متطلباتها.  بل حولوها شعارات شعبوية رتيبة تكرر نفسها في الفرص والمناسبات، فباتوا على هامش الحدث السياسي وخارج اصطفافاته المؤثرة، وفي موقع التابع لا المتبوع، المنفعل لا الفاعل،  العاجز لا القادر، المتأثر لا المؤثر.

هل هذا الوضع هو نتيجة فخ استدرج إليه التغييريون حين قرروا الترشح للانتخابات النيابية؟ مشروعية هذا السؤال نابعة من أن العملية الانتخابية نفسها لم تكن وفق قواعد الديمقراطية، بل وفق قواعد لعبة تتحكم قوى السلطة بمداخلها ومخرجاتها، ومن أن فرصة الترشح والمساواة في تقديم الخطاب والبرنامج الانتخابيين لم تكن متساوية بين جميع المرشحين، وأن حالات القمع وحملات التخوين سادت أكثر أحداث المشهد الانتخابي. هذا فضلا عن أن قانون الانتخابات بحد ذاته ملغَّم، أي ليس محايداً أو شفافاً، ومصاغاً ليضمن نتائج محسوبة سابقاً ومتحكم بها.

كان رهان الذين رشحوا أنفسهم ان تغيراً وازناً في مزاج المجتمع اللبناني يستحق البناء عليه واستثماره في العملية الانتخابية لإحداث تغيير جذري أو شامل. هو رهان مشروع في ظاهره، لكن تبين أن حساباته لم تكن مدروسة بدقة، وأن المزاج اللبناني فُهم في وتيرة احتجاجه وتذمره العالية، ولم يتم التمعن في باطنه المضطرب والقلق والخائف.  فالناخب اللبناني أظهر ميلاً إلى التغيير، لكن هذا الميل جاء مترافقاً مع تردد وهلع من التغيير الفعلي. إذ إن علاقة الريعية والزبائنية بين الحاكم والمحكوم، أي علاقة الراعي والرعية، الأبوة والبنوة السياسيتين، ما تزال شديدة الحضور في ذهن الفرد والمواطن وحتى الناخب.  إضافة إلى أن الشعور بالحاجة إلى سند قوة حزبية أو قيادة طائفية تعوض على الفرد غياب الدولة وتؤمن له حماية وموجبات أمان تعجز عنها الدولة، ظل راسخاً  في لاوعيه الدفين والعفوي.  غاية ما يتحمله المزاج العام هو استبدال أشخاص بآخرين، من دون أن يؤدي ذلك إلى تغيير مباديء المشروعية وقواعد اللعبة السياسية، بل من دون أن يتسبب ذلك بإزاحة القوى الحاكمة نفسها. فالتغيير الكلي لا يقتصر على السلطة، اي تغيير شرعية الحكم، بل يطال موضوع السلطة ايضاً، أي تغيير المحكومين في ذهنيتهم وقيمهم وعلاقاتهم.  

الدلالة القصوى لوصول عدد معتبر من المرشحين إلى المجلس النيابي، هي تطعيم المجلس بوجوه جديدة، إضافة نكهة إضافية إليه.  لكن قبة المجلس أي سقف حراكه وشبكة القوى المتحكمة به ومسار العملية السياسة كلها ما تزال هي ذاتها.  ما يعني وجود فارق هائل بين التنازلات التي أقدم عليها التغييريون من جهة، التي مؤداها إصباغ شرعية لا على قواعد ومباديء اللعبة فحسب بل على حراس هذه اللعبة ومنتجيها أيضاً، وبين المكتسبات من جهة أخرى التي لا تتعدى اختراق طفيف للمجلس النيابي، لن يكون قادرا على تعديل موازين القوى فيه أو تحويل برنامجه ومساره التشريعي.  بالتالي تكون المحصلة النهائية لهذا الإنجاز الضئيل والتنازلات بالجملة والمجان هي التدجين، أي القبول الطوعي باللعب في ملعب الخصم وتحت سقفه ووفق شروطه، مع احتفاظ النواب الجدد بهامش مشاغبة بطولية داخل المجلس ونجومية إعلامية عالية السقف خارجه، ليثبتوا أنفسهم ويرضوا جمهورهم.

هي وضعية أثارت استخفافاً وتندراً من قوى السلطة وجمهورها، لا بنواب التغيير فحسب بل بحراك 17 تشرين، الذين بدأ عالي السقف وواثقاً من قدراته الكاسحة على الذهاب بمشروع التغيير أو الثورة إلى نهاياتها القصوى: "كلن يعني كلن"، ثم تدرج في التناقص والتبعثر والتشتت، وأخذ يفجر تناقضاته الذاتية، إلى أن تلاشى وتحول إلى تطلعات وآمال ذاتية مسكونة بإحباط ويأس شديدين. الأمر الذي مكن قوى السلطة من اكتساح المشهد العام من جديد بثقة أكبر، رغم تناقص عددهم في المجلس، وجرَّأ أهم رموزها على إتهام هذا الحراك وجميع من شارك فيه، والشك في وطنيتهم وأخلاقيتهم، بتصويرهم منفذي مؤامرة أمريكية.    

ولعل السؤال الذي يسبق سؤال صوابية أو عدم صوابية قرار ترشح التغييرين للدخول إلى المجلس النيابي هو: ما التغيير؟ وهو الصفة والعنوان الذي اعتمده النواب الجدد في البرلمان، أي الباعث والدافع لدخولهم  المجلس النيابي. فالتغيير السياسي في أبسط تعريفاته، هو نقل واقع أو تحويله من حال إلى حال آخر. ما يعني أن عناصر التغيير متقومة: أولاً بفهم الواقع الراهن وإدراك حجم القوى المتحكمة فيه وذهنيتها وقدراتها الفعلية، وثانياً بصورة الواقع الجديد وخصائصه وسماته وواقعيته وإمكانية فعليته. وثالثاً باستراتيجيات تحقيقه ومراحل تحققه والقوى المتصدية له وعناصر القوة المطلوبة لتأمين طاقة المواجهة وعزيمة الدفع.  هي عناصر تحتاج إلى تبصر ووضوح، طموح وتواضع، اندفاع وتعقل، توقع وواقعية، فكر تنظيري وقوة اشتباك مع الواقع.  باختصار، التغيير تحويل الممكن غير المتحقق إلى حقيقة فعلية وسط الطوباويات المستحيلة والواقع المستعصي والمقفل في إحكاماته. هي عناصر ما تزال غائبة وضبابية، بل ملتبسة ومجهولة لدى نخب ورموز التغيير، فضلاً لا يمكن أن يعوض غيابها كثافة الشعارات وصخب المزاودة وضجيج الاستعراضات البطولية.  

لا شك أن الانتخابات النيابية الأخيرة أظهرت تململاً مجتمعياً من أداء السلطة، لكنها لم تبد ميلاً كافياً ومقتحماً للتغيير أو التحول إلى أمكنة جديدة. ما يجعل التغيير فاقداً أرضيته المجتمعية والغطاء الشعبي اللازم له. بالتالي وبدلاً من القفز في الفراغ، وادعاء أوصاف من دون محتوى وألقاب من دون مضمون، لا بد من الاشتغال على السؤال الذي يسبق جميع الاسئلة ويتفوق عليها: لماذا فشل الحراك أو "الثورة"، وما هي شروط إمكان خلق مسار تغييري جديد؟

 

 

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها