السبت 2022/12/03

آخر تحديث: 07:38 (بيروت)

درس دموي لأكراد سوريا

السبت 2022/12/03
درس دموي لأكراد سوريا
increase حجم الخط decrease

الرأي السائد أن أكراد سوريا، ممثَّلين بقسد ومسد، على وشك تلقي ضربة كبيرة، إما حرباً بعملية برية تركية، أو سلماً بالانصياع لشروط ومطالب أنقرة. قد لا يتحقق أسوأ التكهنات في القريب العاجل، لارتباطه بقرار واشنطن الانسحاب من سوريا، لكنه بات مطروحاً بقوة مقترناً بعدم إيجابية واشنطن تجاه التغيير في سوريا، لا إزاء الأكراد فحسب. يقوّي من لامبالاة واشنطن الخاصة بالأكراد أنها لا ترى عداوة بينهم والأسد، بل هناك تعاون وتنسيق في العديد من الجبهات الأخرى، على انفراد أو بوساطة موسكو.

بعد عقد من رحلة الصعود، قد لا تكون النهاية وشيكة، إلا أن مآل تجربة قسد صار شبه متوقع، وفي أحسن حالاته لن يكون متناسباً على الإطلاق مع التضحيات الكردية الجسيمة. من دون أن ننسى في هذا السياق التضحيات الجسيمة المقدَّمة من قبل باقي السوريين، بمن فيهم أولئك الذين ساندوا الأسد ودفعوا غالياً وسيدفعون ثمن بقائه. في دفع الأكراد الثمن الباهظ، أسوة بباقي السوريين، أول الدروس عن فشل "الخيار الثالث"، الخيار الذي ربما يصادف حظاً أفضل عندما تكون هناك سلطة ومعارضة ضمن حراك سياسي مدني، أما حظه في صراع مركَّب شديد الضراوة فهو ماثل أمامنا وأمام أصحابه.

في الخيار الثالث، وهو قد طُرح للتداول متأخراً، هناك مفارقة لجهة تذكيره بالنموذج الكردي العراقي من قِبل منظومة حزب العمال التي لا تخفي عداءها لحكم البرزاني في إقليم كردستان. كما هو معلوم أتاحت وتتيح الظروف العراقية للإقليم لعب دور مرجِّح أحياناً ضمن الصراع أو التنافس الشيعي-السنّي، وأهم ما في الخصوصية العراقية أن دور الإقليم مرسوم دستورياً، مع ملاحظة ضرورية تتعلق باتفاق الطرفين السنّي والشيعي على رفض استقلال الإقليم. أيضاً، مما يجعل طرح الخيار الثالث سوريّاً شديد الخفة تجاهله ما يتطلب من استقلالية واكتفاء بالحدود الحالية، وترجمة ذلك فكّ ارتباط قسد ومسد بحزب العمال الكردستاني الأم.

كنا، بخلاف الاستقلالية والاكتفاء بالجغرافيا الحالية، قد شهدنا دعاوى كردية مفادها أن السيطرة على الشمال السوري بأكمله مرحلة في المعركة الكبرى، حيث سيصبح الشمال بمثابة قاعدة خلفية لحرب التحرير في تركيا. في لحظة النشوة تلك انساق كثر من الأكراد وراء الأوهام القومية، وهي لا تنفصل "كما في نظيرتها العربية" عن أوهام التوسع والهيمنة واستعادة "الماضي التليد". في هذا درس بليغ عن الفشل في إدارة النصر، فلم يكن الخطاب المحايث له مطَمْئناً لغير الأكراد، فوق استخدامه للاستقواء على خصوم حزب العمال في الوسط الكردي نفسه.

نقترب من الذكرى الرابعة للغزو التركي لعفرين، وقد أوضح حينه استعدادَ واشنطن وموسكو للتضحية بمناطق من سيطرة قسد ضمن صفقات دولية وإقليمية، وعلى رأسها المنطقة ذات الأغلبية الكردية الأعلى. خلال هذه السنوات الأربع تراجع خطاب النصر إلى خطاب المظلومية التقليدي، حيث تحتل صدارته نظرية المؤامرة واستحضار تفاهمات دولية قديمة دفع الأكراد ثمنها. هكذا تبدو المؤامرة قدَراً، مثلما هو قدَرٌ ألا يكون للأكراد حلفاء موثوقون.

لا يختلف خطاب المظلومية الكردي عن نظيره العربي، إذ يحوّل الهزيمة إلى نوع من الفرادة التي تتحلى بها المجموعة، وهي ستبقى ضحية التآمر بسبب الخطر الذي تمثّله بالنسبة للآخرين جميعاً. هذا وإن كان يسهّل تقبّل الهزيمة، بل يجمّلها أحياناً، فإنه في جميع التجارب المشابهة يمنع نقد أصحاب المظلومية أنفسَهم، بما أن العلّة مقيمة في المؤامرة إياها. هنا أيضاً درسٌ نرى آثاره اللاحقة في البدء كل مرة من عتبة الصفر، ثم على الأرجح تكرار الأخطاء، لأن التجربة السابقة لم توضع تحت المساءلة والنقد.

ولخطاب المظلومية وظيفة تتعدى تعزية الذات الجماعية المجروحة، إنها وظيفة تبرئة الذين يتحملون على الأقل قسطاً من المسؤولية من أبناء الجماعة نفسها. المفارقة الماثلة في التجربة الكردية أيضاً أن يكسب هؤلاء مزيداً من الاصطفاف وراءهم، بدل خضوعهم للمساءلة التي يُفترض أنها من طبيعة العمل في الشأن العام. والتبرئة تقتضي أن الفكرة القومية ذاتها كانت وتبقى صالحة، وما يعيقها هو تآمر الخارج، من دون انتباه إلى الفشل الذريع لتجارب مشابهة في المنطقة، ومن دون انتباه إلى نماذج بدت ناجحة كالنموذجين الإيراني والتركي، إلا أنهما على اختلافهما يتعثران بعيداً عن الحلول الديموقراطية في إيجاد حلول لقضايا الإثنيات.

للنموذج التركي تحديداً أهمية لما فيه من فشل مزدوج، فشل "حرب التحرير" التي يخوضها حزب العمال، وفشل الحكومات التركية المتعاقبة في تصفية الحزب وتصفية القضية الكردية. ثمة رأي كردي شائع ينص على أن الانتصار هناك سيقوّض الدولة التركية، وإلى جواره رأي يرى استحالة قبول الدول الكبرى انهيارها. في العقود الأربعة الأخيرة، ثم في العقد الأخير خاصة، تعززت هيمنة الشقيق الأكبر الكردي-التركي على نظيره السوري، ما ربط الأخير بقضية الأول باعتبارها "القضية المركزية"، ولأن حل القضية المركزية على مقاس الأحلام القومية غير متاح فإن هذه الوضعية في أحسن الأحوال تضحّي بالشقيق الأصغر خدمة للأكبر، وفي أسوأ الأحوال وأكثرها شيوعاً تجعل من تضحياته بلا جدوى تُذكر.

فك الارتباط العسكري بالمركز الكردي-التركي سيحدث قسراً بموجب التفاهمات المخابراتية بين أنقرة والأسد، وعودة قسد إلى كنف الأخير ستكون تتويجاً لذلك الفصل. يبقى الأهم ذلك الارتباط الذي لا يمكن فصمه بقوة العسكر والمخابرات، ولن يقتصر على جانبه العاطفي فقط ما لم يخضع الجانب العملاني منه للنقد. إن أبلغ خاتمة نراها في التسويق مؤخراً لكون العودة إلى الأسد أفضل من تركيا والفصائل التابعة لها، وهذا بقدر ما يحتمل من الصحة يحتمل فشل التجربة والقول أن ثمن التضحيات هو صفر.

المصيبة في المفاضلة الأخيرة أنها تعمل لصالح الأسد ضد أي مشروع للتغيير في سوريا، ما دام البديل أسوأ منه فيما يخص الأكراد. والمصيبة الأكبر أن هذه الخلاصة مكتوبة منذ عشر سنوات عندما تخلى الأسد عن مناطق لتسيطر عليها قسد، بل قبل ذلك بسنوات عندما كانت مخابراته تحذّر المعارضين الأكراد من التعاون مع نظرائهم العرب بدعوى أن المعارضين العرب لن يكونوا أرأف بهم إذا تسلموا السلطة. أدّت قسد دورها لتصدُق نبوءة المخابرات، أما شراذم المعارضة "العربية الإسلامية" فقد تفوقت على تنبؤات رجال المخابرات، وإذا كان من درس كردي "بفضل الانتظام والانضباط" ينبغي التفكر فيه فإنه من المستحيل تقريباً استخلاص درس ما من الفضيحة المسماة معارضة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها