الأربعاء 2022/12/28

آخر تحديث: 08:12 (بيروت)

2022 ..العد العكسي للإستبداد؟

الأربعاء 2022/12/28
increase حجم الخط decrease

على كثرة الأحداث التي شهدها هذا العام الآيل الى الأفول، يمكن للمتابع أن يجد فيها ملامح خط بياني يجمع بين العديد منها بشكل يؤشر الى خفوت وهج الشعبوية وتراجع زخم الإندفاعة العالمية نحو أنموذج حكم الإستبداد والتي قضّت مضاجع الليبراليين في ديمقراطيات راسخة ودغدغت شهوات التعسف لدى المتزمتين والعنصريين في ديمقراطيات حديثة، في أسوأ موجة انعزالية يشهدها العالم منذ عشرينيات القرن الماضي. بشيء من التبسيط يمكن القول أن هذه النزعة التي بدأت عشية الألفية الثالثة وتبلورت بوضوح أول العقد الثاني وبلغت ذروتها في منتصفه، تعرضت في العام 2022، لإنتكاسة واضحة من صناديق الإقتراع الى المؤسسات الدستورية أضافت اليها النكسة الميدانية لعرّابها الأول بعدًا يوحي بعدم قدرتها على الإنبعاث مجددًا أقله في المدى المنظور. 

عندما تحولت طائرات مدنية تقوم برحلات عادية بين مدن أميركا في الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر 2001، الى أسلحة دمار شامل بيد خاطفيها من "مجاهدي" أسامة بن لادن، وتمكنت من تدمير برجي مركز التجارة العالمي في مدينة نيويورك وجزء من مقر وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) في واشنطن، كانت العولمة، التي شاعت بعد انهيار التجربة الإشتراكية البائسة مع الإتحاد السوفياتي، في أوج انطلاقتها. لكن بداياتها التي أرّقت الدول "النامية" الباحثة عن موطئ قدم لها في عالم احادي، سرعان ما ارتدت الى المصدر، الى الشركات المتعددة الجنسيات التي سارعت الى نقل استثماراتها ومصانعها الى حيث اليد العاملة الرخيصة والمواد الأولية غير الخاضعة لقوانين العمل وحماية البيئة، وبالتالي الى فقدان مئات آلاف العمال اليدويين وغير المدربين في الغرب لوظائفهم ومداخيلهم، وكانت التهمة سهلة ومزدوجة في هذه الحالة.

في الوقت الذي نقلت فيه الشركات الكبرى انتاجها سعيًا وراء الربح المالي، كانت قوى الضغط "اللوبي" التي تمثل هذه الشركات في حكومات بلدانها تستثمر سياسيًا واعلاميًا في فقدان العمال (البيض ذوي الأصول الأوروبية الغربية) لوظائفهم، مع أنهم يحصلون على تعويضات سخية وضمانات أبدية، لصالح المهاجرين - الذين يسرقون فرص العمل التي لا يريد أي أميركي أو بريطاني أو أوروبي غربي أن يتقدم لها- كانت المشهدية أهم من الحقيقة، وكانت الدعاية أبلغ من الأرقام، وكان التحريض ضد المهاجرين من اوروبا الشرقية في بريطانيا مثلًا أهم من حقائق الفوائد الاقتصادية الكبيرة للعضوية في الاتحاد الأوروبي، بالتوازي مع التحريض ضد كل المهاجرين في أميركا "أمة المهاجرين". 

شكل انتخاب باراك أوباما كأول ملوّن من أصل أفريقي رئيسًا لأميركا صدمة للنخب البيضاء ونقطة تحول مفعمة بالعنصرية تزامنت مع التعثر الإستراتيجي الأميركي في ما يسمى "الحرب على الإرهاب" وتلاشي نفوذ المحافظين الجدد ومشروع "فرض" الديمقراطية ليفسحا المجال أمام ثنائية السخط والإحباط في أميركا والتي سرعان ما انتجت ما سمي حينه "حزب الشاي" الذي حملته المشاعر العنصرية المكشوفة الى أكثرية تشريعية يمينية في الكونغرس عملت على عرقلة إدارة أوباما مؤسسيًا. بين التعطيل التشريعي للسلطة التنفيذية وبين انفلات الضغائن العنصرية من عقالها، بدا النظام الديمقراطي عاجزًا وعقيمًا مقابل الأنموذج الإستبدادي المنتعش على خطين، شخصاني في الكرملين يقدم فلاديمير بوتين كـ "قائد ملهم"، وحزبي في بكين يباهي بالنمو المضطرد للإقتصاد الموجه، وفيما كانت الدعاية الصينية باسم "الصداقة الأممية" ترافق مشاريع الإعمار والبنى التحتية في الدول النامية -دون حاجة الى تلكؤ واملاءات وشروط أميركا وصندوق النقد الدولي- كان الجهد الروسي منكبًا على تمويل وتشجيع الفاشية الجديدة في كل مكان واستخدام الانترنت والتواصل الاجتماعي لزعزعة الثقة بالمؤسسات والسياسات الليبرالية ورفع منسوب التعصب الحزبي بين مكونات المجتمعات التعددية.

أنعشت جاذبية الإستبداد أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا من الدول الإسكندنافية شمالًا الى اليونان جنوبًا مرورًا بكل الغرب، وكرست الأنظمة الفردية في اروبا الشرقية عمومًا، كما وجدت ترجمتها في العديد من الدول النامية من شرق آسيا الى أفريقيا وجنوب أميركا، وفي العام 2016 حققت أكبر قفزة لها بتصويت بريطانيا على الخروج من الاتحاد الأوروبي لتتوج مسيرتها بانتخاب دونالد ترامب رئيسًا لأميركا، والذي شكل حافزًا مهمًا للنكوص عن الإنفتاح فأمسك الجناح الشعبوي في حزب المحافظين السلطة في لندن مع شخصيات "ترامبية" مثل بوريس جونسون، فيما استباحت المتزمتة مارين لوبان اليمين الفرنسي التقليدي، وتعملقت الحركات الإنفصالية في اسبانيا، واستقر الطاغية رودريغو دوتريتي في الفلبين، وانتخبت البرازيل "ترامبها" جايير بولسونارو، وصار "الرجال الأقوياء" نجوم الشاشات وأقطاب السياسة الدولية.

استنفرت هذه الموجة القوى والتيارات الدستورية والليبرالية التي كادت تبلغ مرحلة انعدام الوزن، فيما كان حكام الإستبداد يتجاوزون القوانين ويحطمون الأعراف ويهمشون المؤسسات السياسية، وكانت المنازلة الكبيرة في انتخابات الرئاسة الأميركية التي عندما خسرها ترامب بفارق غير كبير، حاول الإنقلاب وتزوير نتائج التصويت وامتنع عن مباشرة الإنتقال السلمي للسلطة للمرة الأولى في تاريخ أميركا. ايقظت محاولة الإنقلاب هذه بعض اليمين التقليدي ونبهت المستقلين في كل مكان الى أن الديمقراطية ليست مضمونة، وأن ما حصل في أوروبا التي تسامحت مع التجارب الفاشية قبل قرن من الزمان، يمكن ان يتكرر اليوم، وتولت المؤسسات التي يحلو لترامب وصفها بـ “الدولة العميقة" التصدي له قضائيًا وبرلمانيًا واعلاميًا كاشفة استهتاره بالدولة ومستقبلها وجنوحه الأناني الى النجومية والتربح، ونجحت اللجنة البرلمانية التي حققت في اقتحام الكونغرس في تعرية حركته الإنقلابية تدريجيًا، ما فتح عيون المجتمع المدني بكل اطيافه على المخاطر التي يمثلها، وجاء أول رد في صناديق الإقتراع في الانتخابات الفرعية والمحلية في تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، لتكر بعدها سبحة الإنفضاض عن خدعة الشعبوية.

من الفلبين الى البرازيل مرورًا بأوروبا وأميركا، اشاح الناخبون عام 2022، بأصواتهم عن دعاة الفاشية، ولولا فلتة جيورجيا ميلوني في إيطاليا، لكان المشهد بكامله في خانة الديمقراطية. لا جدال في أن فشل عدوان فلاديمير بوتين على أوكرانيا، وإهانته الموصوفة على ضفاف نهر دونيتس، معطوفًا على تعثر الاقتصاد الصيني الذي لم يخرج من وباء كوفيد بعد، قللا كثيرًا من وهج الإستبداد واعادا الرشد الى من ضللتهم الشعارات الطنانة والعصبيات الرخيصة. فلا عجب أن يتحول ترامب بعد كل هذا التألق الى سمسار بطاقات تذكارية تحمل صوره، وأن تقول استطلاعات الرأي أن المحافظين في بريطانيا سيحلون في المركز الثالث في الانتخابات المقبلة. فهل بدأ العد العكسي للإستبداد؟ هل كتب للديمقراطية النجاة؟

           

   

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها