الثلاثاء 2022/12/27

آخر تحديث: 06:50 (بيروت)

من الذي يسيء فعلاً إلى "المرأة الجنوبية"؟

الثلاثاء 2022/12/27
من الذي يسيء فعلاً إلى "المرأة الجنوبية"؟
increase حجم الخط decrease

تنتمي شخصية "بتول" في "فشة خلق"، إلى عوالم يفترض أنها انقرضت منذ وقت بعيد. مع أن جوانا كركي ممثلة موهوبة، فإن بتول تبدو آتية من شخصية شربل خليل التي بقدر ما امتلأت بالعنصرية والتنميط والاستسهال، بقدر ما خلت من الذكاء الذي يجعل الكوميديا كوميديا. هذا في وقت بات هناك أسماء شابة لامعة في الستاند أب تشتغل على محتوى ذي مضمون اجتماعي سياسي نقدي يسمي المواضيع بأسمائها بجرأة عالية، وبتقنيات ذكية ومحترفة وقد بذل عليها جهداً واضحاً.

بتول الجنوبية، ورفيقتها البيروتية، وغيرهما، تأتي من مرحلة قديمة كانت في حينها متواضعة أصلاً. النوع برمته انتهى مع نهاية شربل خليل. لكن البرنامج نفسه يعاني ما يشبه عقدة خليل هذا. يقوم على مجموعة من الكليشيهات المبنية على المباشرة الشديدة التي لم تعد تصلح حتى للتداول اليومي في السرفيس والمقهى ومكان العمل. المباشرة السهلة في تنميط الشيعية بالمحجبة ذات اللهجة الفاقعة والتي تستميت في الدفاع عن الثنائي، كل ما تقوله متوقع، وتبالغ على أمل أن تُضحك. لكنها تفشل لأن ليس لديها ما يضحك، لا هي ولا كل فقرات البرنامج المفترض أنها ساخرة.

هذه معضلة بحت فنية، تتورم حين يُحمّل البرنامج النقدي أجندة "الجديد" السياسية، والقناة مثلها مثل زميلاتها غير المملوكة لاحزاب، ضائعة بين كونها إعلاماً أو حزباً.

ما قالته بتول (جوّانا كركي) عن الإنكليز والطليان الذين "فاتوا فينا"، كسبب لوجود جيل من الشقر وأصحاب العيون الملونة تقع في هذه الخانة، في خانة الإساءة للكوميديا قبل الإساءة إلى "المرأة الجنوبية". النكتة نفسها، (وسيفاجأ "الأبرياء" الآن)، متداولة منذ زمن بعيد، ولا تقف عند حدود طائفة أو محافظة لبنانية بعينها. هي مزحة معلوكة لكنها عابرة للطوائف والمناطق، خاصة وأن اللبنانيين ليسوا معروفين بأنهم ينتمون إلى عرق بعينه، وخاصة أن العامين منا، أي معظمنا، يجهل شجرة الجينات الوراثية لعائلته وتداخل الأعراق فيها. والنكتة، إذ تخرج إلى العلن عبر القناة التي عاشت سابقاً قصة حب عاصفة مع محور الممانعة، فلا شك أنها ستجد خصماً ينفخ فيها، تفيق لديه النخوة في الدفاع عن مصطلحات بائدة مثل "العرض"، ووهمية، مثل "المرأة الجنوبية"، وتستيقظ الشوفينية، وتجتاح الرداءة كل شيء.

لا يوجد "امرأة جنوبية" من أهم صفاتها أنها مقاومة. يوجد نساء عاديات، كل واحدة منهن مستقلة تماماً عن التي تجلس بجانبها. كل واحدة كائن بحد ذاته لا يمكن نعته باسم محافظة. وإذا كان هناك تحديات حقيقية تعيشها مطلق امرأة، فتتعلق بأبوية المجتمع مثلاً، حين يضيق إلى حدود العائلة، أو يتسع ليضم أبوية الحزب وأبوية المؤسسة الدينية الناطقة باسم الطائفة. هذان الأخيران، حزب الله والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، قررا اختزال النساء اللواتي يظنان أنهن حكماً من رعيتهما. لم يدليا برأيهما في ما قاله "الجديد"، بل اعتبرا نفسيهما مسؤولين عن "امرأة" مبهمة يمكن لهما أن يحكيا عنها، ويهددا بالقضاء صوناً لها، مع أنها، منطقياً، ليس لها عنوان محدد، ولم تخولهما الحديث باسمها. واختصرا الإهانة المفترضة بالشيعية الجنوبية حصراً، مع أنه يمكن لأي لبنانية أن ترى في ما قالته بتول إهانة يمكنها أن ترد بنفسها عنها، وترد كما تريد، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، لتحل محل الأبوين الكبيرين الرصينين، ومجموعة الشيوخ الأقل رصانة، وقبل ذلك، تحل محل جموع الذكور الموتورين الذين حملوا سيوفهم وخرجوا إلى تويتر وفيسبوك ليصونوا عرض"هم" وشرف"هم" الشخصيين، مع أن الأساءة المفترضة ليست موجهة لهم، ولا لنسائ"هم"، بل للنساء.

قالت نساء من الجنوب وغيره رأيهن لا شك، لكن كيف يمكن سماعه وسط مهرجان التحقير والشتائم المرعب الذي نُظم بحق مريم البسام وجوانا كركي وداليا أحمد، حمل كل ما يمكن أن يخطر على بال من عنصرية وذكورية وإهانة للنساء إضافة إلى نوع من الشتائم كالشفرات الحادة، كل ذلك دفاعاً عن الأخلاق، وعن المرأة؟

هؤلاء المبتذلون على وسائل التواصل الاجتماعي، يئدون أي نقاش من المحتمل الخروج منه بفكرة مفيدة، ولو يتيمة. شتائمهم تولد من بعضها بعضاً، يسيئون فيها لكل ما يخطر على بال، عدا عن كم التجريح والبغض والكراهية الذين يصبونه على شخص بعينه، امرأة في العادة، من كل الجهات، يحتاج ضحيته إلى قدرات خارقة كي يمنع تأثره بها، أو حتى الانسحاق تحتها. هؤلاء الذين يتفاخرون بانعدام أخلاقهم، وبمهاراتهم الفائقة في السفاهة، مسيئون للبيئة أكثر بكثير من عبارة مرّت في برنامج يحتضر، لأنهم يهبّون هبة رجل واحد ويهتاجون جماعياً، ويرددون معاً اللغة نفسها، ويثبتون صورة نمطية ظالمة لما يصطلح على تسميته بالبيئة. وهم فالتون بلا رقيب، لأنهم على الأرجح مفيدون في ترهيب الأبناء والبنات الضالين أولاً، والأعداء ثانياً.

هؤلاء حاجة مفيدة للجهات التي يناصرونها، وإلا لما تركوا على غاربهم ليقولوا ما لا يمكن للنائب عن حزب الله، أو الشيخ في المجلس الشيعي قوله. كل واحد منهم تبرع، ويتبرع، بمجموعة من الإساءات الكفيلة بالهبوط بالمستوى العام للتواصل البشري لفترة طويلة مقبلة. وهم أصلاً مساهمون رئيسيون في الاحباط العام من التدهور على الصعد كافة، والذي أحد أمثلته الآن أن الحدث الوحيد في البلد هو مجرد جولة جديدة في حرب مفتوحة بين قناة تلفزيونية وطرف سياسي، لم يصب فيها، كما العادة، إلا من لا دخل له به: نساء ومفاهيم، وأعراق بألوان بشرة وعيون مختلفة، وفن كوميديا مسكين، لم يظلم في مكان من العالم كما ظلم في لبنان.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها