الخميس 2022/12/22

آخر تحديث: 15:22 (بيروت)

عن حزب الليكود واليمين المتطرّف في إسرائيل

الخميس 2022/12/22
عن حزب الليكود واليمين المتطرّف في إسرائيل
increase حجم الخط decrease

مع اقتراب قيام حكومة بنيامين نتنياهو السادسة، التي توصف في معظم الأدبيّات الإسرائيلية بأنها "حكومة يمين صافية"، بأداء اليمين القانونية، تنشغل تلك الأدبيات في معظمها أيضًا بما تسميه "التحوّلات السياسية والاجتماعية" التي مرّ فيها حزب الليكود منذ أعوام ولا سيما تحت زعامة نتنياهو، وتسببت بتغييره من ناحية تركيبته، وبإحداث تغيرات في خطابه. 

وبغية الإحاطة بجوهر هذا الجدال يُشار، من بين أمور أخرى، إلى أن حزب الليكود تطوّر من المدرسة الصهيونية التنقيحية التي قادها ونظّر لها زئيف جابوتنسكي، وخلفه في قيادتها مناحيم بيغن (رئيس الحكومة الإسرائيلية السابق)، الذي أسس تحالف الليكود من أحزاب يمينية متعددة كان في مركزها حزب حيروت، ووصل إلى الحكم لأول مرة في تاريخ إسرائيل عام 1977، بعد ثلاثين عامًا من حكمٍ مطلقٍ لحزب مباي ووريثه حزب العمل. ومتأثرا بأفكار جابوتنسكي حمل الليكود، خلال  عقود، توجهاً أيديولوجياً ينطلق من رفضه لأي تقسيم لفلسطين التاريخية ("أرض إسرائيل" في تسمية الخطاب الصهيوني والديني)، وهو موقف أيديولوجي حمله منذ تأسيس التيار التنقيحي في الحركة الصهيونية، عندما كان المشروع الصهيوني الاستيطاني في بداية طريقه في فلسطين، واستمر بعد احتلال باقي الأراضي الفلسطينية في حزيران/ يونيو 1967. وبالإضافة إلى توجهه القومي حول "أرض إسرائيل الكاملة"، حمل الليكود توجهاً جرى تأطيره بأنه ليبراليّ وخصوصًا في الاقتصاد، ولكن أيضًا في الحقوق المدنية والفردية، ولم يكن يعتقد أن هناك تناقضًا بين توجهه القومي وبين توجهه الليبرالي، فقد رأى أن الحلّ يكمن في فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية وقطاع غزة ومنح الفلسطينيين في هذه الأراضي حقوقاً مدنية فردية في إطار الدولة اليهودية، الأمر الذي تراجع عنه بيغن (على الأقل على المستوى الخطابي والرسمي) بتوقيع اتفاق كامب ديفيد مع مصر الذي أقرّ بمنح الفلسطينيين حكمًا ذاتيًّا. غير أن تحوّلات اجتماعية وسياسية وفكرية ساهمت في تغيير الليكود، وتمثّل أبرزها في تآكل النخب القديمة ذات التوجهات الليبرالية على النمط المذكور، وتقدّم نخب جديدة ذات طابع قومي- ديني من جهة، وذات طابع شعبوي- فاشي من جهة أخرى. فمثلًا دخل إلى كتلة الليكود في الكنيست قبل أعوام يهودا غليك، وهو متدين يهودي متطرف كان رأس الحربة في اقتحامات اليهود للمسجد الأقصى المبارك، ويسعى إلى تقسيم الحرم القدسي زمانياً ومكانياً بين اليهود والفلسطينيين المسلمين. وهناك شخصيات ظهرت في دورات سابقة مثل عضو الكنيست موشيه فيغلين، الذي يحمل توجهات يمينية متطرفة تنسجم مع توجهات حركة "كاخ" الفاشية المحظورة، وقد كان قبل أعوام على هامش الليكود وتحول فكره إلى تيار مهم في هذا الحزب. 

كما تجدر الإشارة بهذا الشأن إلى أن معظم النخب الليكودية القديمة ذات التوجهات الليبرالية وخاصة تلك النخب التي تسمى "الأمراء"، وهم أبناء الجيل الثاني وورثوا قيادتهم عن آبائهم من الجيل الأول في الليكود، تم إقصاء غالبيتهم في الدورات الأخيرة للكنيست بشكل تدريجيّ، وتسلمت مكانهم نخب جديدة تنتمي إلى الصهيونية الدينية فكرياً، أو تحمل توجهات يمينية متطرفة تشبه توجهات اليمين المتطرف في أوروبا في ما يتعلق بالحقوق المدنية الفردية. كما أن النخب الأشكنازية تراجعت في الليكود لصالح قيادات شرقية تحمل أجندات غير ليبرالية وغير ديمقراطية ومعادية للعرب، وكذلك للنخب الأشكنازية القديمة من "اليسار الصهيوني". وتشترك هذه النخب الجديدة في الليكود مع النخب القديمة بفكرة "أرض إسرائيل الكاملة"، ولكنها تختلف معها بالنسبة للحقوق المدنية للفلسطينيين، وأسست فعليًا لنظام أبارتهايد يجسّد إبقاء السيطرة الإسرائيلية على الأرض، وضم مناطق من الضفة الغربية إلى السيادة الإسرائيلية، وحرمان الفلسطينيين من أي حقوق سياسية ومدنية متساوية وكاملة. كما بدأ المستوطنون يتغلغلون إلى صفوف الليكود للتأثير في سياسته تجاه الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي عمومًا، وتجاه المستوطنات خصوصًا، فظهرت نخبة من قيادة الليكود من المستوطنين الذي ينتمون إلى الصهيونية الدينية، وقد ظهر ذلك في تمثيلهم في قائمة الليكود من جهة، وفي تصويت المستوطنين لليكود مقابل الأحزاب التي تمثل المستوطنين وأعضاء الصهيونية الدينية من جهة أخرى.

أحد هؤلاء "الأمراء" هو دان مريدور (75 عامًا) نجل إلياهو مريدور، أحد قادة عصابة إيتسل الصهيونية ثم عضو الكنيست الإسرائيلي عن حركتي "حيروت" و"غاحل". وشغل مريدور الابن منصب سكرتير حكومة مناحيم بيغن في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، ثم انتخب عضواً في الكنيست في قائمة الليكود في عام 1984. وفي ما بعد، شغل منصب وزير العدل ثم وزير المال. وبعد أن عاد إلى النشاط السياسي ضمن قائمة الليكود بعد "فترة استراحة" استمرت بضعة أعوام، شغل منصب نائب رئيس الحكومة، والوزير المسؤول عن أجهزة الاستخبارات ولجنة الطاقة النووية. ولكن في الانتخابات التمهيدية الداخلية (برايميرز) التي جرت في حزب الليكود تحضيرا لانتخابات الكنيست الـ19، في كانون الثاني/ يناير 2013، تعرض مريدور لحملة تصفية وتم إقصاؤه إلى مكان غير مضمون في قائمة مرشحي الليكود. وعشية الانتخابات للكنيست الـ20، في آذار/ مارس 2015، أعلن مريدور أنه لن يصوّت لحزب الليكود وقائمته برئاسة نتنياهو. وفي سياق مقابلة مطولة أجرتها معه صحيفة "معاريف" الإسرائيلية (8/8/2016)، قال مريدور إن "الموازنة ما بين القومي والليبرالي كانت من سمات الليكود المميزة على الدوام. ولكنني أخشى من أن هذا التوازن آخذ بالتغيّر والاختلال الآن... حينما تقف القومية وحدها، من دون موازِن ليبرالي يؤكد حرية الفرد وحقوقه، فإنها تصبح قوموية... يهمني الشأن اليهودي بالطبع، ولكن اليهودية هي مسألة قيمية أيضًا. إنني أرفض التوجهات التي تتصاعد وتبغي المسّ بالكوابح المفروضة على السلطة". كما أشار إلى أن ثمة عبارة تتكرر في الليكود تقول "آن الأوان كي نحكم"، والقصد هو "الحكم من دون أي قيود أو كوابح". وبرأيه "هذه ليست ديمقراطية لأن الديمقراطية ينبغي أن تحرسها وسائل الإعلام والمحاكم، وأن تلجمها. يجب الحذر من مغبة المساس بهذه المؤسسات. فالهجوم على وسائل الإعلام سهل جدًّا، لكن من دون وسائل إعلام حرة ليست هنالك ديمقراطية".  

فضلًا عما تقدّم، من الملاحظ أن الليكود تحوّل منذ 2009 إلى حزب القائد الواحد، وهو بنيامين نتنياهو. فليس هناك شخص داخل الحزب قادر على منافسته وإسقاطه من منصب رئيس الحزب ومرشحه لرئاسة الحكومة. وباتت مهمة إسقاط نتنياهو عن رئاسة الحكومة والليكود مهمة جهات خارج الليكود وداخله. فعلى سبيل المثال، في انتخابات 2015 تجندّت نخب عسكرية وأمنية وإعلامية وأدبية لإسقاط الليكود ونتنياهو، حيث تم التركيز على شخصه أكثر مما على حزبه، وحاول "اليسار الصهيوني" إبقاء موضوع الانتخابات متمحورًا حول القضايا الاقتصادية والاجتماعية التي سعى الليكود للتهرّب منها، ومع ذلك استطاع أن يحصل على 30 مقعدًا، وهو أكبر عدد مقاعد حققه الحزب منذ عام 1992 (ما عدا انتخابات 2003 التي كان فيها الحزب برئاسة أريئيل شارون وحصل على 38 مقعدًا). وكشفت نتائج تلك الانتخابات عن أن نتنياهو وليس الليكود هو الفائز، ما عزّز قيادته في الحزب، وبذا أمسى بقاء الليكود في الحكم مرتبطاً إلى حدّ كبير ببقاء نتنياهو زعيماً له ومرشحاً عنه لرئاسة الحكومة. 

وفي الأعوام الأخيرة ساهمت أحادية القيادة في الليكود التي يمثلها نتنياهو في خروج الكثير من قيادات هذا الحزب من صفوفه، بسبب صراعها معه على قيادة الحزب وعلى نهجه، وليس لأسباب أيديولوجية كما هي حال النخب القديمة. وهذه القيادات كانت عماد الحزب، وكانت ترى نفسها بأنها وريثة نتنياهو في قيادة الحزب، إلا إن سيطرة وهيمنة هذا الأخير على الحزب ومؤسساته دفعتاها إلى الخروج من صفوفه والبحث عن آفاق جديدة للعمل السياسي. وعلى سبيل المثال خرج من الحزب، خلال فترة زعامة نتنياهو، الوزير السابق جدعون ساعر الذي أقام حزباً جديدًا، وكان يرى في نفسه مرشحاً ومنافساً لنتنياهو على قيادة الحزب، ووزير المال السابق موشيه كحلون الذي ترك الحزب وأسس حزبًا جديدًا، ووزير الدفاع السابق موشيه يعلون الذي خرج لخلافه مع نتنياهو حول نهجه ومُداراته للتوجهات الشعبوية المتطرفة في الشارع الإسرائيلي وأنشأ حزبًا جديدًا. 

وأدّت نتائج كلّ الجولات الانتخابية الأخيرة إلى رفع نتنياهو إلى مصاف المخلص والمنقذ لليكود واليمين في إسرائيل، وإلى مرتبة البطاقة الرابحة التي تضمن بقاء الليكود في سدّة الحكم. علاوة على ذلك، فإن اليمين المحافظ في الولايات المتحدة يرى في نتنياهو مرشحه في الساحة السياسية الإسرائيلية، وأصدر من أجله صحيفة خاصة داعمة له، أو صحيفة ناطقة باسمه هي "يسرائيل هيوم"، توزع مجانا، ويُمولها الملياردير اليهودي الأميركي شلدون إدلسون، وهي الآن الصحيفة الأكثر انتشارًا في إسرائيل، وساهمت في تغيير المشهد الاعلامي الإسرائيلي الذي كان يعتبر حكرًا على النخب القديمة.

وبالرغم من السياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي يتبناها الليكود وبالذات نتنياهو، والتي أضرت في البداية بالطبقات الدنيا في المجتمع الإسرائيلي ولاحقًا بالطبقات الوسطى، وخصوصًا في الأعوام الأخيرة، إلا أن الليكود ما يزال يحظى بتأييد كل القطاعات الاجتماعية في المجتمع اليهودي لا سيما تلك الطبقات التي تضررت من سياسات الليكود الاقتصادية. ويكمن أحد أسباب ذلك في أن الليكود يبني خطابه نحو المجتمع اليهودي بالأساس على قاعدة التخويف والتوجه القومي والأمني، الأمر الذي يخفّف من حدّة تأثير القضايا الاقتصادية والاجتماعية على شعبيته في المجتمع اليهودي. 

عند هذا الحدّ يتعيّن القول بأن البعض في إسرائيل يصف النخب القديمة في الليكود، التي يمثل شخص مثل مريدور الوارد ذكره أعلاه مواقفها العامة، بأنها "يمين نزيه وعقلاني" كونها تفهم جيدًا أن الديمقراطية الجوهرية ليست حكم الأغلبية فقط الذي هو تعبير عن ديمقراطية شكلية ضيقة، إنما هي أيضًا وبشكل أساسي في بعض الأحيان حماية الحقوق الأساسية الدستورية للأقلية وللفرد. ومن هنا مناهضتها عسف الأغلبية حيال الأقلية ومحاربتها من أجل تحصين حقوق الأقلية والفرد في وجه تعدّيات الأغلبية وحكمها. ولكن هذا كله يسري من منظورها داخل حدود إسرائيل، بينما مواقفها ودورها في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967 كان ولا يزال بمثابة الممهّد لتأسيس نظام الفصل العنصري الآخذ بالترسّخ أكثر فأكثر. 

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها