الأربعاء 2022/12/21

آخر تحديث: 12:22 (بيروت)

بيع قناة السويس..حين يفيق المصريون من خدر الأساطير

الأربعاء 2022/12/21
بيع قناة السويس..حين يفيق المصريون من خدر الأساطير
لوحة حامد عويس "الزعيم وتأميم القناة" (1957)
increase حجم الخط decrease
المسافة بين التاريخ والأسطورغرافيا، ليست بالكبيرة، ولعل تطابقهما يتم في صورته الأكثر اكتمالاً في سرديات الدولة الحديثة. لا يعني هذا بالضرورة أن تواريخنا الوطنية ملفقة، ولا أن تدوينات حداثتنا محض أساطير، بل أن التاريخ يتولى وظيفة الأساطير، في ألقها وسحرها، كرواية للتأسيس والبدء، ودلالة على أننا الشعب المختار. لا رواية للحداثة الوطنية في مصر من دون قناة السويس وأسطورتها، تلك الملحمة التي لا تخلو من هزل. يوقع سعيد باشا على قرار الامتياز لفرديناند ديلسبس مقابل طبق من المكرونة، أو هكذا تقول القصة.. لا تعنينا حقيقة الحدث هنا، فأمثولة التفريط والشره متجذرة في التاريخ، وعلى خطوط الحبكة نفسها، مثل عيسو الذي باع بكوريته ليعقوب، بحسب العهد القديم، مقابل أكلة عدس.

يحفر المصريون القناة بأياديهم العارية، بالسخرة وبثمن غال هو حيوات الآلاف من الفلاحين. سردية الشعب المُستعبَد والتواق إلى حريته هي القلب لسردية الدولة الأمة. كانت قناة السويس وما تزال هي دلالة عبوديتنا وحريتنا معاً. حتى في العبودية، يبذل المصريون دماءهم من أجل العالم. فإن كانت مصر هِبة النيل، فالقناة هي هبة مصر للعالم، الممر الملاحي الذي يجعل منها مركزاً للكون ومطمعاً أيضاً للقوى العظمي. بطريقة أو بأخرى، هي صليبنا.

لن يكون من باب المبالغة القول إن القناة دون غيرها هي العمود الفقري لتاريخنا الوطني الحديث، هي جرحه غير المندمل المفتوح عمداً، شريان العالم. من حفلة الافتتاح، وقاهرة إسماعيل "باريس على النيل"، وسفه الخديوي وأحلام عاصمته الجديدة، والديون والمزيد من الديون، والإمبراطورة أوجيني وأوبرا عايدة، إلى ثورة عرابي والاحتلال البريطاني لمصر. كما في الأساطير، يكون مصدر قوة البطل هو كذلك نقطة ضعفه، أو أن تكون النعمة واللعنة وجهين للعبة القدر الواحدة.

تلح الأسطورة دائماً على أن الحدث الصغير شأن كَونيّ، وأن مخاضات البطل ترسم مصير العالم. تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي، طبقة أخرى من التضحية والبطولة في طريق طويل مرسوم بدماء الشعب وجنوده، وإعلان نهائي عن حرية المصريين المستحقة واستعادتهم لوطنهم، وهي أيضاً النقطة الفاصلة بالنسبة للعالم أجمع، بإغلاق الباب على زمن الاستعمار القديم ووضع نهاية له بختم مصري. القناة حاجز أيضاً، تُوظّف ضدنا، استعصاء يجب التغلب عليه وقهره، أحجية على بوابتها يحرسها الوحش ويجب فك طلاسمها حتى يتم الخلاص. هكذا، من حرب الاستنزاف إلى عبور أكتوبر، ترسخ القناة مكانتها كمحور لأسطورتنا الوطنية وموضع تعميدها.

اليوم يستيقظ المصريون على مزيد من أخبار الأزمة الاقتصادية وتداعياتها، العملة الوطنية في حالة من السقوط الحر بلا قاع. التعويمات التي كانت تحدث على عداد سنوات، أصبحت تتكرر كل بضعة أشهر. أما خبراء صندوق النقد فيضعون خطط "الإصلاح" نفسها التي انتهت إلى الفشل، أي المزيد من الديون والمزيد من التقشف. وفي المقابل تعلن الدولة خطة بمليارات الدولارات لبيع أصولها، وفي ظروف سوقية غير مواتية، بيع بالخسارة لمجرد خدمة الدين وعجز ميزانية المصروفات الأساسية، وذلك كله على أمل المعجزة، وانتظار الاستثمارات التي لا تجيء.

من دون أن يثير الأمر ضجة كبيرة، مرر مجلس النواب، الإثنين الماضي، قانوناً يسمح بإنشاء صندوق خاص لقناة السويس، وعاء موازٍ يبيح وضع حصص من موارد القناة ومصروفاتها خارج الموازنة العامة، وكذا بعيداً من أي نوع من الرقابة. ينص القانون على السماح بتأجير أو بيع أي من أصول الشركة. وفي مواجهة الاعتراضات القليلة التي صدرت على بيع القناة، يلوم رئيس مجلس النواب "النخبة المثقفة"، فلا شيء سيتم تأجيره أو بيعه سوى "الأصول" وحدها، ولا نفهم كيف يطمئن هذا المعترضين، فماذا يبقى من القناة من دون أصولها؟ ومن ثم يعاود رئيس النواب تكرار التعويذة الفارغة عن جذب الاستثمارات والتطوير وتعظيم الموارد.

تتخذ مرويات الأساطير مسارات دائرية، فتكرر الأحداث نفسها. النظام الذي قبل أعوام قليلة كان يباهي بأنه حفر قناة جديدة، وخَطّ أسطورة أخرى، سرعان ما يجد نفسه مجبراً على أن يبيع ما بقى لديه من أصول للدولة ومن ضمنها القناة. تكتمل الدائرة، وتكرر الأحداث نفسها. السفه والتفريط وأحلام العواصم الجديدة، المزيد من الديون، فالإفلاس، وهكذا. لا تُعدّ القناة ملحمة، بل مجرد شركة وصندوق خاص وأصول قابلة للتأجير أو البيع، ويفرط النظام في كل شيء، حتى ما ورثه من رصيد الأساطير. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها