الخميس 2022/12/15

آخر تحديث: 06:07 (بيروت)

أميركا تسابق الصين على المريخ

الخميس 2022/12/15
أميركا تسابق الصين على المريخ
increase حجم الخط decrease

في توقيت يحن الى رومانسية زمن انتهى قبل نصف قرن، وفي توقيت سياسي يعكس الحقائق الجديدة للعبة النفوذ الدولي، استعاد برنامج الفضاء الأميركي بعضًا من أمجاده العلمية واستأنف رحلاته الصاروخية الإستكشافية حول القمر تمهيدًا لأول رحلة مأهولة يفترض أن تبشر بالهبوط البشري والتقني مجددًا على سطح القمر خلال عامين، لإنشاء قاعدة تصلح كمنصة للإنطلاق الى المريخ لاحقًا، لتحقيق حلم بشري مزمن بالوصول الى الكوكب الأحمر، الهدف الأثير للعيون منذ أول اسطرلاب (تيليسكوب)، والمختبر الموعود للرد على السؤال الوجودي "هل هناك حياة، أو آثار حياة، خارج الأرض"، هذا جواب لن تقتصر مفاعلاته على العلوم، بل ستتعداها الى المعتقدات والمسلمات والغيبيات. لذلك حظي نجاح المرحلة الأولى من منظومة "أرتميس" باهتمام اعلامي شعبي واسعين، وأعاد النبض الى قطاع كاد أن يطويه النسيان.

في التوقيت الزمني شاءت وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) تنفيذ المرحلة الأولى من "أرتميس" في الفترة الزمنية المطابقة بالتفصيل لآخر رحلة مأهولة الى القمر على متن "أبولو 17" التي انطلقت على متن الصاروخ "ساترين في. إس. أي. 512" في السابع من كانون الأول/ديسمبر 1972، والى التاسع عشر منه، حاملة آخر من تطأ قدماه سطح القمر الرائد هاريسون هاغن شميت، واختارت ليوم عودة الكبسولة الإختبارية "اوريون" التي حامت حول القمر، وبداخلها محسّات وأجساد اصطناعية تحاكي حساسية البشر لقياس تأثير الإشعاعات الجوية عليها، مدة 26 يومًا، اليوم نفسه الذي حطت فيه آخر "أبولو" على القمر.

كعادتها، وتجسيدًا للإستلاب، أو التكريس الغربي لإحتكار أثينا القديمة للتاريخ البشري ككل! أطلقت "ناسا" أسم "ارتميس" على أكبر برنامج طموح لها منذ عقود. صاحبة الإسم من الآلهة الإغريقية القديمة، هي الهة الصيد والعذرية والإنجاب والخصوبة وحامية الأطفال، وتنتمي الى الآلهة الإثني عشر للأولمبيين، فهي ابنة "زوس" و "ليتو"، وهي توأم "أبولو"، وعادة ما تصورها النقوش القديمة وبيدها قوس وسهام. لناسا تاريخ طويل في الترويج للمفردات اليونانية البائدة من الفا الى زوس، لذلك أطلقت على الكبسولة التي سيعاد استخدامها لاحقًا اسم "أوريون" الصياد الذي اختاره كبير الآلهة ليكون بين النجوم.

لم تكن مهمة "أرتميس" عادية أبدًا، هي الأولى التي تقوم بها "ناسا" بمقدراتها الذاتية منذ زمن طويل، منذ النهاية الكئيبة لبرنامج "مكوك الفضاء" الذي كان "درة التاج" الفضائي الأميركي تقنيًا ودعائيًا قبل أن تحيله الكوارث الى هباء. هذا البرنامج الذي شكل في العام 1977 فتحًا بينيًا، بعد رحلاته التجريبية، تحول بعد كارثته الأولى في الثامن والعشرين من كانون الثاني/يناير1986، والثانية في الأول من شباط/فبراير عام 2003. الى عالة على "ناسا" دفعها الى الإستعانة بالتقنيات الروسية الموروثة عن الإتحاد السوفياتي لتوصيل الرواد والإمدادت الى محطة الفضاء الدولية التي كانت تدغدغ أحلام الواهمين في هذا العالم، بعالم جديد يعترف بالعلم ويتصرف بموجبه. لسنوات طويلة اعتمدت "ناسا" البرنامج الفضائي الروسي لرفد المحطة الدولية بالرواد والإمدادات، لكنها لم تركن اليها تمامًا ولم تضع بيضها كله في سلة واحدة. هنا انفتح الباب أمام القطاع الخاص، الممول والمدعوم حكوميًا، لا سيما "سبيس إكس" و "بلانيت لاب"، لتوفير بدائل للتواصل مع المحطة، وهذا ما تحقق في سرعة قياسية.

في التوقيت السياسي، من الواضح أن أميركا الواثقة من إقتصادها الذي لا يضاهى حتى الآن، تجاوزت حسابات الحرب الباردة، وهي تستعد كم ورد في الرؤية الاستراتيجية للرئيس جوزيف بايدن، الذي ورث "الهم" الآسيوي من شريكه الأكبر باراك أوباما. لم تعد روسيا، حتى قبل أن تتورط في أوكرانيا، همًا استراتيجيًا، دولة اقتصادها أصغر من إقتصاد كوريا الجنوبية، أو اسبانيا مثلًا، لا تهدد أميركا. كل العيون تتجه الآن الى العملاق المستجد، الصين. والصين لا تخفي نواياها، بل لا تعمل بمقولة "استعينوا على حوائجكم بالكتمان". والصين مصممة على غزو الفضاء وكانت أول دولة بعد أميركا تضع مسبارًا على المريخ وتقول علانية أن الفضاء مشاع للجميع.

لم يقصر الإعلام الأميركي في التنبيه الى الطموحات الصينية. في اليوم التي عادت فيه كبسولة "أوريون" بنجاح الى المحيط الهادئ، نشرت "نيويورك تايمز" تقريرًا مطولًا عن طموحات الصين الفضائية لتحط على القمر وتنطلق الى المريخ. لا يتجاوز عمر البرنامج الفضائي الصيني الثلاثين سنة، لكن الإندفاعة الصينية لم تكن وهمية. تشير التقديرات الأميركية الرسمية الى أن بإمكان الصين التقدم فضائيًا في العام 2045، يقابل ذلك اعلان موسكو في آب/ أغسطس الماي انسحابها من مشروع المحطة الفضائية الدولية ونيتها بناء محطة خاصة بها. لم تأخذ "ناسا" بالإعتبار سوى اعلان الانسحاب، ولم تأبه؛ أولًا لأنها لم تعد بحاجة الى صواريخ قاعدة (بايكونور) في كازخستان، وثانيًا لأن الكرملين الآن لا يهتم بالمستقبل قدر ولعه بالماضي.

هو سباق جديد في الفضاء تغير فيه لاعب لكن لم يتغير فيه الهدف.




    




    

    


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها