الإثنين 2022/12/12

آخر تحديث: 09:02 (بيروت)

يفوز المغرب فتمطر في الأشرفية

الإثنين 2022/12/12
يفوز المغرب فتمطر في الأشرفية
تجمهر مشجعي المغرب في ساحة ساسين (انترنت)
increase حجم الخط decrease

لو أن صدر الأشرفية اتسع قليلاً، ولو كان غزاتها أكثر تفهماً لخصوصيتها، لكن لبنان آخر، بديع، ولد من جديد من أتون هذا اللقاء العابر لصراع الحضارات. لو أنه كان هكذا: تصل عشرات الدراجات النارية، محملة بزماميرها ومراهقيها المسلمين وهرموناتهم الفائضة عن حدها بسبب فوز المغرب على البرتغال. يختلط المسيحيون بالمسلمين حول شجرة الميلاد في ساحة ساسين. تكمل الفرقة أغانيها الميلادية السعيدة، بينما يكبر شاب صارخاً "الله و أكبر"، ويؤذن آخر، تختلط الأجراس بقبب المآذن، ويتمايل المسيحيون والمسلمون على وقع اختلاط الموسيقى بالموسيقى. وتُذرف دموع الحب والتسامح.

لكن دون تحقيق مثل هذه المعجزة الميلادية الكثير. فمن وجهة نظر التلة البيروتية العريقة، بدا وصول الدراجات النارية من جهة الحدود الغربية، غزواً إسلامياً، لا فرق فيه بين سنة وشيعة، بل مسلمون يهجمون على الأشرفية. وما قد يراه القاطن في بيروت الغربية تعبيراً مبالغاً فيه ومزعجاً بشدة عن البهجة بفوز منتخب عربي، يراه ابن الأشرفية صلاح دين أيوبي جديد، على دراجة نارية. وما أظهرته الفيديوهات للنشاط المفرط للشبان على الدراجات، من المستحيل إلا يوقظ ذكرى كريهة للأشرفية ولبنان على حد سواء، حين كان الرد المنطقي على رسوم مسيئة للنبي محمد في الدنمارك، اقتحاماً للأشرفية فائق الهمجية، أحرق فيه الباحثون عن سفارة الدنمارك في حينها (2006) منازل ومكاتب وروعوا السكان قبل أن يتحولوا إلى تحطيم سيارات بريئة كل ذنبها صلبان صغيرة تتدلى من مراياها، لتعيش المنطقة واحدة من أسوأ كوابيسها منذ نهاية الحرب الأهلية.

أهل الأشرفية محقون في توجسهم من منظر عشرات الدراجات، تثير كل هذه الضجة، وتحمل أعلاماً غريبة الألوان والأشكال بالنسبة إليهم، ويطلق أصحابها صيحات تكبير أسفل شجرة سلام مسيحية. أما شبان الدراجات فليسوا أبرياء تماماً. هم يدركون أنهم في ساحة ساسين، وعلى مرأى من بشير الجميل الذي يقف في صورته حارساً البداية ليل نهار. لو دخلوها آمنين، لو وقفوا عند أسوارها وبعثوا برسول إلى قائد جنود الرب، يقول لهم إنه وأخوانه آتون بغصن زيتون وحمامة بيضاء، فقط ليمارسوا حقهم الطبيعي بالتعبير عن فرحهم بفوز المغرب على البرتغال في ساحة ساسين، أسوة بساحات طريق الجديدة، لربما ما وقع كل هذا، ولكان الأشرفيون خرجوا رافعين مشاعلهم وأطفالهم على وقع عزف المزامير مرحبين بضيوفهم، ولأطعموهم أيضاً لحماً وخبزاً وشربوا العصائر وسهر الجميع حتى مطلع الفجر، في غبطة وفرح ووئام، كما يحدث في أي قصة من القرون الوسطى، أو في لعبة العروش.

لكن الحبكة تطورت دراماتيكياً بشكل معاكس تماماً، وإن حافظت على روح القرون الوسطى، والحروب الإسلامية الصليبية. ففي خضم معارك السلاح الأبيض بين الجيشين، انشقت السماء عن صوت توراتي هادر يصرخ: نحن جنود الرب. وارتفعت صلبان خشبية مصنوعة يدوياً وعلى عجل، وسُحل جندي مسلم مسكين ورُكل على رأسه بالأقدام، ولولا رحمة مهاجميه، لقطع مقود دراجته من جذوره وعُلّق على أسوار الأشرفية لترى دراجات الغزاة ما الذي ينتظرها إن هي أعادت الكرّة.

مع أن المعركة وقعت، والهجوم رد على أعقابه، والغزاة هربوا بأذيالهم بين سيقانهم، فليس في الحادثة ما يثير الاستغراب أو الاستجهان أو حتى الفضول. هذا ما يقع حين تلتقي عوالم لبنان المختلفة. هذه الجولة انتهت على خير على الأقل. اللقاء الأخير بين الشياح وعين الرمانة انتهى بقتلى وجرحى وقناصين ورشاشات وقذائف. بروفا حرب أهلية تامة.

لا شيء فوق العادة في العراك الشوارعي بين طائفتين. لكن جنود الرب يتميزون، في ما يتميزون، بأنهم يبالغون في أدائهم الدرامي فتصير الفرجة عليهم مسلية. لحاهم وعضلاتهم المفتولة وأصواتهم العميقة، بدلاً من أن تدب الرعب في النفوس، تضحكها. يحطمون لوحة داعمة لحقوق المثليين ثم يهرعون إلى أول كاميرا ليقفزوا أمامها كالمصارعين بقفص في سيرك. هؤلاء يتحولون شيئاً فشيئاً إلى ورطة للأشرفية سرعان ما سيكتشف أهلها حجم مأزقهم معها. عاجلاً أم آجلاً، سيعرف الأهالي أنهم سيحتاجون إلى أمن ذاتي ثانٍ يحميهم من مثل هذا الأمن الذاتي الذي ينضح بالتستوستيرون والذي ينجح في كل مرة في إظهار جنود الرب، على حقيقتهم، مجموعة معتوهين من مدمني المرايا في نوادي رفع الأثقال، وقد أُفلتوا بين الناس.

جنود الرب لا يعول عليهم لا في الحماية ولا حتى في تنظيم السير كي تتحرر المنطقة من الازدحام الخانق فيها. علاقتهم السببية بالوجود محصورة بتغذية عضلاتهم. ربما يستفيد العلم منهم يوماً ما في فهم أسباب ظواهر معينة تتعلق بتباين معدلات الذكاء بين البشر. المشكلة ليست فيهم. المشكلة في سياسيين يرون في أنفسهم ممثلين عن الأشرفية بشكل خاص، وعن المسيحيين بشكل عام، يستغلون تضارباً بين أولاد شوارع منقسمة على بعضها، ليكسبوا نقاطاً على خصمهم بمنطق فائض القوة ذاته الذي ينكرونه عليه. يتخذون الإشكال حجة لأن يحيكوا نظريات مؤامرة. يفتعلون قضايا كبرى من لا شيء. يسيئون بذلك لمن يدعون تمثيلهم. يتخذون الإشكال حجة ليؤكدوا حاجة الأشرفية إلى أمن ذاتي. كأن هناك في لبنان منطقة (أو طائفة) محرومة من رجولة رجالها في حمايتها ذاتياً. كأن هذا نفع أو ينفع الناس في شيء. أو كأن الأمن الذاتي سينفع أحداً إذا تطور الاحتفال الأربعاء المقبل، بانتصار المغرب على فرنسا، (أو العكس) إلى إيقاظ لمشروع الفتنة النائم لعنه الله، وأشعل حرباً أهلية صغيرة.

فاز المغرب فأمطرت في الأشرفية. لا يفشل اللبنانيون في إحراج أنفسهم، خاصة وأن السوشال ميديا مصدر شديد اللؤم لتعميم الفضائح التي يفترض بالشعوب أن تخجل بها. دعونا من كرستيانو رونالدو، فهو غير معني بالشأن اللبناني. ماذا إذا عرف مدرب منتخب المغرب، وليد الركراكي بأن حرباً صغيرة اندلعت في الأشرفية بسبب فوز بلاده على البرتغال، من يجرؤ من المتحاربين، ومن ضمنهم فارس سعيد ونديم الجميل أن يشرح له الخلفيات التاريخية والسياسية والاجتماعية التي أدت إلى معركة الأشرفية. أن يجلس معه، ويحدد له ساحة ساسين كنقطة بداية، ثم يقفز بالتاريخ نحو مئة سنة إلى الخلف على الأقل، ويمر على تأسيس لبنان وقلعة راشيا، والاستقلال وحروبه الصغيرة والكبيرة، ثم عقود ما بعد الحرب، والفارق بين طريق الجديدة والأشرفية. ثم بعد كل هذا الشرح، يجيب عن سؤال الركراكي المتوقع: وما دخل المغرب بكل هذا؟ هذا إن لم يطرح المدرب المغربي سؤاله بلهجته. حينها لن يجد أصلاً من يفهم السؤال.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها