الأحد 2022/12/11

آخر تحديث: 22:21 (بيروت)

الديمقراطية المرجأة في العالم العربي

الأحد 2022/12/11
الديمقراطية المرجأة في العالم العربي
increase حجم الخط decrease

 

هل الديمقراطية مرجأة في العالم العربي؟

سؤال مشروع بحكم فشل جميع الثورات العربية بتعبيراتها المتنوعة في إنشاء وضع سياسي جديد يستبدل الاستبداد المتنوع الأشكال، بأنظمة حكم ذات طبيعة ديمقراطية قوامها الحرية والمساواة وسيادة الشعب وإدارة معقلنة للصالح العام.  لكن، إذا كان هذا السؤال مشروعاً، فإن الإجابة عنه مخاطرة كبيرة. بحكم اتساع موضوع السؤال وتنوعه الكثيف، وهو العالم العربي، الذي تتنوع فيه الظروف وتختلف العادات والثقافات وتتباين المشكلات السياسية من بلد لآخر.

بيد أنه، ورغم هذه الاختلافات، فإن حكماً واحداً يشمل الجميع، هو: الفشل والإخفاق في الانتقال من طور راهن إلى طور آخر جديد غير مسبوق. ولما كان هذا الحكم هو الوحيد الجامع بين جميع هذه الثورات، فلا بد، ولو بدرجة احتمال عالية، أن تكون موجبات الفشل والإخفاق مشتركة، بمعنى عدم الاكتفاء بإحالة الفشل إلى العامل الموضوعي أي العجز وعدم الكفاية رغم وضوح الفكرة وتوفر القصد الجدي. وإنما الحفر عميقاً في رافعي لواء الثورة ومطلقيها، أي ذهنية الثوار أنفسهم وقابلية المجتمع النفسية والاجتماعية للانتقال إلى الطور الديمقراطي.   

لاحظت حنة أرنت أن كلمة ثورة في اللغة الانكليزية والفرنسية مشتقة من اليونانية وتعني revolve، وهي عبارة عن مدار مغلق يسلكه الشيء بحيث يعود ويمر بعد دورة كاملة إلى نقطة بداياته. هذا المصطلح استعمل في وصف حركة الكواكب الفلكية وتشخيص مداراتها المتنوعة، ثم استعير في مجال الإنسانيات لتوصيف ظواهر التمرد والانقلابات العسكرية ومظاهر العنف التي تنجح أو ترغب في تقويض السلطة والمجيء بسلطة بديلة. بحيث بات استعمال مصطلح الثورات قديماً توصيفاً لمسار الأمور التي تعود إلى نصابها الصحيح المفترض، واستعادة وضعية أو مبدأ أو قاعدة أو حقوق سابقة يفترض بها أن تكون معياراً وأصلاً لانتظام الأمور وصحة سَيرْها.  فالثورة وفق الفهم القديم ليست خروجاً، بل أعادة الامور إلى أوضاع سابقة تتسم بالثبات والاستقامة.

 بيد أن مصطلح الثورة أخذ بعد الثورة الفرنسية منحى مختلفاً ومعاكساً لتداوله المتبادر، وصار يعني المجيء بشيء جديد غير مسبوق وغير مألوف من قبل. أي نهاية طور وبداية طور آخر، خروج عن مسار سابق ومفترض وابتكار وضعية انتظام مختلفة تحمل قيماً وروابط وقواعد مشروعية لم تكن معروفة أو على الاقل لم تكن متداولة في الممارسة والخطاب.  وفق هذا التصور باتت الثورة قطيعة مع جميع مؤسسات الحاضر والماضي، قطيعة مع قيمه ورموزه وثقافته، هدم وإعادة بناء من الجذور، ثوره تنتج ثقافة وقيماً جديداً ليدخل المجتمع في وضعية انتظام كامل الجدة والمغايرة. لذلك يرتبط المفهوم الحديث للثورة، بحسب حنة أرنت، "ارتباطاً لا انفصام له بالفكرة التي تقول إن مسار التاريخ قد بدأ من جديد فجأة، وبأن قصة جديدة تماماً لم تُروَ سابقاً ولم تُعرف قط، هي على وشك أن تظهر".  

  لذلك استقر مفهوم الثورة بعد الثورة الفرنسية والأمريكية على أنها تغيير أساسي، ومفاجئ، وعنيف في القيم السائدة داخل المجتمع، وفي المؤسسات السياسية، وفي الهيكل الاجتماعي، وفي القيادة، وفي الأنشطة والسياسات الحكومية.  ومن ثم، فالنموذج الذي يبني عليه هانتنغتون نظريته هو نموذج الثورة الاجتماعية أو الثورة الكبرى grand revolution ، وهي المسميات التي كانوا يطلقونها علي ثورات مؤثرة تاريخياً نظراً لحجم التغيير الذي جاءت به مثل الثورة الفرنسية، والثورة الروسية، والثورة الصينية، والثورات في كل من المكسيك وكوبا.  فالانقلابات العسكرية أو الانتفاضات قد تغير القيادة السياسية والسياسات، وفي بعض الأحيان قد تحدث تغييراً في المؤسسات السياسية، ولكن الثورة هي فقط هي التي تستطيع إحداث تغيير في الهيكل الاجتماعي social structure للمجتمع مثل تغيير الطبقة الاجتماعية الحاكمة، وتغيير علاقة الطبقات الاجتماعية داخل المجتمع بعضها ببعض.

أما في المجال العربي، فقد كان الراسخ في التداول العربي، الذي يقابل المفهوم الحديث للثورة في الغرب، هو مفهوما الفتنة والخروج اللذان يستعملان في توصيف حركات التمرد وحالات الشغب والصراعات الداخلية. أما الفتنة فهي الصراع الأهلي الذي يهدد الجماعة أو الأمة واستقرارها، أي هي صراع بين قوى داخلية تولدت بسبب انفجار تناقضات داخلية بين مكونات اجتماعية أو مذهبية أو طبقية، لكنها لا تتسبب بتغيير قواعد الانتظام المجمع عليها أو المتسالم بها، بقدر ما تتسبب بشروخ وانقسامات تهدد الكيان العام، مثل فتنة مقتل عثمان وما سمي بالفتنة الكبرى في صراع الخليفة الرابع علي ضد معاوية.  أما الخروج فيشير إلى كل حركة شبه منظمة تتمرد على السلطة الحاكمة وتعلن عصيانها الكامل لتحقيق غرض أو غاية أو مطلب، قد يكون ديني-أخلاقي أو سياسي أو حقوقي أو كلها مجتمعة. مثل خروج الحسين على سلطة يزيد، وخروج الخوارج على الخليفة الرابع علي، وخروج القرامطة.

هذا يعني أن الخروج كسر لقواعد الإنضباط السياسي بطريقة عنيفة، لكن غرضه ليس إحداث شيء جديد بقدر ما هو إعادة وضع الأمور في نصابها الصحيح، واستعادة الأصل الأخلاقي أو المعيار الديني المفقود. أي تحركات لا تدفع إلى الجديد، بل غرضها التصويب والتصحيح حتى لو اقتضى ذلك فعلاً عنفياً. فالخروج على السلطة وحتى تقويضها وإنهائها لا يحمل معه بشائر نظام جديد بقدر ما هو استعادة لحق مفقود معترف به أو أصل ضائع مجمع عليه.

هذا يعني أن رسوبات الذهنية العربية تحمل نفوراً باطنيا من المخالف للأصل الثابت في الوعي والواقع، بل رفضا لكل جديد لا أصل سابقاً له، وتميل إلى التكيف مع المألوف والمعتاد مهما كانت قساوتهما وشدة وطأتهما. ولما كان تحقيق الديمقراطية بحسب توكفيل يتطلب التساوق والتزامن بين التحول والمجتمعي والسياسي، أي ضرورة انتقال المجتمع بمؤسساته وفاعلياته وقيمه إلى وضع جديد وليس مجرد إزالة مؤسسة سياسية واستبدالها بأخرى. فإن الديمقراطية بمقوماتها الجوهرية هي جديدة كل الجدة وغير مسبوقة في الوعي والعلاقات والقيم العربية. بالتالي لم يكن هنالك قابلية فعلية لتحقيقها بل نفوراً لاشعوريا منها، بحكم أنها تتطلب تغيراً لا في طبيعة الحكم والحاكم وإنما في طبيعة المحكومين أيضاً، أي تتطلب الخروج على الأصل القائم أو السابق وابتداع أصل جديد.  

   لذلك، ورغم الرغبة العارمة بالتغيير الذي شهدناه في مطالب وهتافات الثوار.  فإن أكثر من معطى يوحي بأن الثورات بدت في ظاهرها نزوعاً نحو الانتقال إلى فضاء جديد، إلا أنها في عمقها الثقافي وأطرها الاجتماعية كانت تدفع بالإتجاه المضاد والمعاكس، أي استعادة الأصل المفقود، واسترجاع ما انتهك. أي إعادة الوضع إلى حالته السابقة المستقرة والمولدة للطمأنينة. ما يعني أن الديمقراطية لم تكن مدرجة ضمن المسعى الجدي للثوار وفاقدة القابلية المجتمعية للتحقق، على الرغم من كثرة ألويتها وشعاراتها.

حين انفجر الصراع بين الخليفة الرابع علي بن أبي طالب ومعاوية، نشأت فرقة سميت المرجأة لأنها رفضت الانحياز إلى أي من الفريقين، ودعت إلى إرجاء الحكم على أي من المتخاصمين بالضلال أو الكفر لأن ذلك من مختصات الله.  لم يدر هؤلاء، أن الإرجاء تحول إلى ذهنية عامة ومزاجاً ممتداً، مفاده التكيف مع الواقع مهما كانت مآسيه وكوارثه، وأن ضرورة مواجهته والسعي لتغييره باتا مرجأين. بالتالي استقالة المجتمع عن التصدي للمجال العام، وإرجاء أي مبادرة تستدعي التغيير والتحول، ما يرشح الديمقراطية لتكون حقيقة إرجاء غير معروفة الأمد.

 

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها