الخميس 2022/12/01

آخر تحديث: 06:55 (بيروت)

مباراة أميركا وإيران.. فرصة نادرة للمرح

الخميس 2022/12/01
مباراة أميركا وإيران.. فرصة نادرة للمرح
مشجعة إيرانية في المدرجات بعد خسارة منتخب بلادها أمام أميركا (0-1) غيتي
increase حجم الخط decrease

تعرض كابتن المنتخب الأميركي تايلر آدمز لما يشبه التقريع من المراسل الإيراني في المؤتمر الصحافي قبل المباراة بين إيران والولايات المتحدة. قال له "اسم بلدي إيران وليس "أي ران"، متابعاً محاضرته الحادة بأن أمره بالإقلاع عن هذا الخطأ الجوهري. هذا تفصيل صغير. أن يجهل لاعب كرة قدم أميركي كيف يلفظ اسم بلد إلا كما تعلّم، وهو أصلا ًيسمي كرة القدم بغير اسمها. لكن المراسل الإيراني لم يكن يهاجم اللاعب بعينه، بل يلقن الغرب المتعجرف الدرس العتيق بتغيير عادته الاستعمارية في تسمية البلاد والأماكن والأشخاص كما يشاء هو وليس كما تُلفظ في الحقيقة.

اعتذر اللاعب الأفريقي الأميركي، ورد على السؤال التالي عن سبب مشاركته مع منتخب بلاده التي تمارس التمييز العنصري بحق السود، قائلاً إن أميركا تحرز تقدماً. كان مختصراً ومن الواضح أنه لا يريد الدخول في سجال مع المراسل المتوتر الذي قرر أن يذكره بعرقه كي يصل إلى ما يريد، وهو إعلان موقف بلاده السياسي كردٍ على كل السياسة التي أحاطت بالمنتخب الإيراني مذ وصوله إلى الدوحة للمشاركة في كأس العالم.

هذا حق المراسل، وحق زملائه في وسائل الإعلام الإيرانية الرسمية أو الموالية. أن يشنوا هجوماً مدروساً ومنظماً. فمن بين المنتخبات جميعها، منتخب بلادهم كان الوحيد الذي عومل بصفته بعثة دبلوماسية سياسية صرف، خاصة وأن انتفاضة الإيرانيات التي اندلعت في أيلول ما زالت مستمرة. وقد ساهم لاعبو المنتخب الإيراني أنفسهم في التسييس حين امتنعوا عن ترداد نشيد الثورة الحاكمة في إيران.

كيف تتجنب إيران تسييس وجودها في كأس العالم؟ روسيا مُنعت من استكمال التصفيات التي كان يمكن أن تؤهلها، والصين لم تفلح، كذلك دول أخرى ثورية مثل فنزويلا. إيران كانت الممثلة الشرعية والوحيدة للمحور في وجه الغرب، أو الولايات المتحدة بالتحديد. مع أن أميركا وإيران تعتبران من دول العالم الثالث في كرة القدم. تتشاركان الحجم المتواضع نفسه أمام إمبراطوريات مثل فرنسا وانكلترا وألمانيا واسبانيا، الدول المتشاوفة التي تحضر كأس العالم وعينها على الكأس، لإرضاء مواطنيها أولاً، وجماهير الكوكب الشغوفة بتاريخها الكروي العريق ونجومها العالميين. هذه الدول، ومعها الأرجنتين والبرازيل، هي العدو المفترض الذي يجب مقاومته من قبل دول مثل إيران وأميركا.

الولايات المتحدة وإيران هما البروليتاريا التي عليها أن تتحد بدلاً من الانقسام في صراع غير مجد كل أربع سنوات مرة. لكن هذا مستواهما ولا مفر لهما من القدر. تجلسان في الصفوف الخلفية البعيدة للعبة. المباراة بينهما لا تعدو كونها أي مباراة أخرى، سويسرا وصربيا مثلاً. على أنه، وفي غياب كرة القدم، ستحضر السياسة التي يجد فيها الإعلام والناس الإثارة المفتقدة بسبب تواضع المنتخبين الفني ومهارات اللاعبين الكروية.

مباراة سياسية إذن تلك التي وقعت بينهما. موقعة. وهما بلدان نادراً ما يكون هناك موقف محايد منهما، أميركا على صعيد الكوكب، ومن ضمنه منطقتنا العزيزة، وإيران على مستوى الشرق الأوسط. مهما حاول لاعبو الفريقين التبرؤ من "تهمة" الانتماء إلى سياسات البلدين، لن ينجحوا. فهم يرتدون ألوان بلديهم، ويمثلونهما في هذه المبارزة العالمية. وحين سيتواجهان، سينقسم العالم مع أحدهما ضد الآخر، بناء على مشاعر عميقة وجارفة بالحب والكره لكل بلد منهما، وتاريخه ونظامه وصراعاته التي يخوضها. المحايدون كثر بالطبع، لكن المعنيين كثر بدورهم، في لبنان والعراق وفلسطين وسوريا واليمن وإيران. هؤلاء، ومعهم الإعلام، جعلوا المباراة إلى هذه الدرجة حساسة وحماسية ولقاء قمة، بائساً كروياً، وممتعاً إلى أقصى ما يمكن، سياسياً.

المبارة كانت فرصة يتيمة لتفريغ طاقة مدفونة من الأحقاد المتبادلة بين جمهوري الدولتين. فرصة لا تسمح بها الدبلوماسية الباردة كما أنها لن تتحقق بحرب مباشرة بينهما، على الأقل في المدى المنظور. البديل كان تكثيفاً للصراع في تسعين دقيقة تنتهي بغالب ومغلوب، بانتصار وهمي لفريق على آخر، جانب الحظ إيران في أن تقطفه لجمهورها، ولاعبوها يعايشون الأحداث في بلدهم ويتأثرون بها، ويختلفون في ما بينهم حول ترداد النشيد من عدمه، ويفتتحون مباراتهم الأولى بهزيمة قاسية من انكلترا وستة أهداف أعلنت صحيفة "كيهان" المتشددة أن الآتية أسماؤهم هم الذين سجلوها: الإنكليز، وإسرائيل، وآل سعود، وعملاء الداخل والخارج. بينما الأميركيون جاؤوا من خلف المحيطات على عادتهم، لا يعرفون أي شيء عن أي شيء خارج قارتهم، حتى كيفية لفظ كلمة سهلة مثل إيران بشكل صحيح.

كان يمكن للوح أن يمحى كأن شيئاً لم يكتب، لو فاز المنتخب الإيراني على الشيطان الأكبر. كان الزعيم علي خامنئي سيغرد جذلاناً مدندناً، وكان المحور ليطلق مفرقعات تحطيم أنف المتغطرس، ويسهر حتى الصباح مكتفياً من كأس العالم بفوزه على أمريكا. لكنها كرة القدم اللعينة التي لا يؤمن لها جانب، وقد خذلت إيران وجمهور محورها في هذه الحرب الصغيرة التي سرعان ما ستنسى، بينما ينزل الكبار إلى الملعب.

حزن جمهور إيران، ولاذ بالصمت، وفرح كارهوها فرحاً لئيماً شامتاً. وتفاخر جو بايدن بالانتصار بينما غرد الخامنئي في فوائد استثمار البحر. وعلى أرض الملعب تحققت الروح الرياضية بأن أجهش اللاعب الإيراني بالبكاء على كتف غريمه الأميركي الذي حضنه مواسياً.

اكتملت عناصر القصة المشوقة التي لا تتحقق إلا في الأفلام أو في كرة القدم التي كانت ستخسر الكثير من وهجها هذا العام، لولا اللقاء "التاريخي" بين بلدين هامشيين في لعبة صدرها رحب، يتسع للكبار والصغار معاً، في سبيل التسلية البحتة، رياضية كانت أو سياسية. وقد كانت مباراة إيران وأميركا الأكثر إثارة للتشويق والتسلية والمرح حتى اللحظة، قبل أيام من حدوثها، وخلالها، ولبضعة أيام بعدها. خسارة أنها لن تتكرر هذا العام. أما الانتظار لأربعة أعوام مقبلة، فغير مجدٍ بالطبع، لأن لا شيء يبقى على حاله بين كأس عالم وأخرى.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها