الأربعاء 2022/11/09

آخر تحديث: 16:23 (بيروت)

أميركا:العنصرية تهزم المنطق وتنذر بالأسوأ

الأربعاء 2022/11/09
أميركا:العنصرية تهزم المنطق وتنذر بالأسوأ
© Getty
increase حجم الخط decrease
في الأحوال العادية يمكن إعتبار النتائج الأولية للإنتخابات النصفية التي شهدتها أميركا هذا الثلاثاء، الثامن من تشرين الثاني/2022 إنجازًا تاريخيًا للحزب الديمقراطي الذي خسر بفارق بسيط جدًا مجلس النواب، وينتظر أن يحسم مصير مجلس الشيوخ في الانتخابات التكميلية في ولاية جورجيا، كما حصل قبل سنتين. يفرز النظام السياسي الأميركي ذي الثنائية الحزبية، الذي كانت النخب تتباهى بقدرته على توفير مناخ حكومي مستقر، الكثير من الأنماط السائدة التي تتحول الى ثوابت. إحدى تلك الثوابت أن حزب الرئيس يتعرض في أول انتخابات تشريعية بعد وصوله الى البيت الأبيض لخسائر فادحة في مجلسي النواب والشيوخ، تكون في العادة كافية لتغيير الغالبية، وبالتالي ممارسة طقس "تنافس السلطات" حين تؤتمن السلطة التشريعية على مراقبة السلطة التنفيذية لمنع التسلط والإنفراد.

لم تأتِ هذه الثابتة من فراغ. فمنذ بداية القرن العشرين لم تشذ عن هذه القاعدة سوى دورتين، الأولى في العام 1934، بعد مباشرة الرئيس المنتخب حديثًا، في حينه، فرانكلين د. روزفلت تطبيق سياسة "الصفقة الجديدة" لمواجهة الكساد الاقتصادي العظيم، وعام 2002 بعد هجمات الحادي عشر من أيلول الإرهابية على نيويورك وواشنطن في عهد جورج بوش الإبن. لكن عدم وجود كساد هائل أو حدث أمني غير مسبوق لا يعني أن أميركا اليوم تعيش وضعًا عاديًا، فما بعد رئاسة دونالد ترامب (2017-2021) ليست كما قبلها، والأسئلة التي تواجه أميركا لم تعد تقتصر على ثلاثية الخبز والأمن والعدالة، التي حكمتها منذ ما بعد الحرب الأهلية، تواجه أميركا الآن سؤالًا سوّلت لها نفسها أن تعتقد انها معصومة منه؛ سؤال العنصرية البيضاء، الانكلوسكسونية الأوروبية المصدر، والتي تنزلق اليها بهمّة وحماس منذ عهد رونالد ريغان.

لم يكن ريغان مجرد ممثل للأدوار الثانوية في هوليوود، بل أضاف الى سيرته الذاتية في خمسينيات القرن الماضي، وشايته بزملائه ذوي الميول الإشتراكية والإنسانية. كانت تلك الخدمة أيام المكارثية والتخويف من البعبع الشيوعي مجزية ومفيدة ورفّعته في السياسة الى حاكمية كاليفورنيا أكبر الولايات، قبل الوصول الى البيت الأبيض عام 1980، لبدء تفريغ الإدارة من السياسة، وتفريغ السياسة من الصالح العام واستبداله بأوهام وتهيؤات وأضغان لا تليق بأول تجربة ديمقراطية تمثيلية في العالم. شكّل ذلك النكوص، الذي جاء ردًا على إقرار الحقوق المدنية والإنسانية ثم الحقوق المعيشية والإجتماعية للأميركيين، بداية الإنزلاق التدريجي نحو إعتماد العنصرية الشاملة كمكابح للسياق الديمقراطي القائم مبدئيًا على أساس "أن كل الناس متساوون في الحقوق والواجبات" كما في اعلان الإستقلال الأميركي، والإستعاضة عنه بأن "البيض فقط يستحقون المساواة" كما في أيديولوجية الفاشية والنازية.

زاد انهيار الإتحاد السوفياتي والفشل الذريع للتجربة الشيوعية البائسة من وقاحة اليمين الأميركي، الذي مثّله ريغان نفسه قيل سنتين من نهاية عهده، خلال زيارته لنصب يخلد الجنود النازيين في المانيا، واستعادت الجهات العنصرية الهوى بعض المدد وعادت الى ترويج الدعايات التافهة للتفوق الأبيض بلا وازع ليأتي الصهيوني الأسترالي الأصل، البريطاني التجربة، الأميركي الطموح روبرت مردوخ الى المشهد مستغلًا  وثيقة الحقوق الأساسية في الدستور التي تكفل حرية التعبير والصحافة ليؤسس شبكة "فوكس نيوز" التي لعبت مجازيًا في أميركا ما لعبه كتاب" كفاحي" لأدولف هتلر في المانيا. يقول من سبق لهم أن عملوا وتعاملوا مع الشبكة أن شعارها كان: "لا تدعوا الحقائق تعيق روايتكم للأمور". بعد ربع قرن على انشائها صارت "فوكس نيوز" أقوى من القيادة الوطنية والقيادات المنتخبة والمستويات الحزبية للجمهوريين الذين يتبارون لخطب ودها على أمل الظهور على أحد برامجها، فيما أصبح نفوذ أي معلق رئيسي فيها- أهم من نفوذ الرئيس الجمهوري أو زعماء الجمهوريين في مجلسي الشيوخ والنواب. 

دخلت أميركا موسمها الإنتخابي الأخير في ظروف غير عادية أبدًا. ففي الجانب السياسي لا تزال تداعيات الانتخابات الرئاسية السابقة ماثلة في الاذهان حيث يرفض الرئيس السابق، وأكثر شخصية محافظة نفوذًا، دونالد ترامب الذي هندس غزوة الكونغرس المشينة، حتى الآن الإعتراف بهزيمته أو بشرعية رئاسة جوزيف بايدن وتجاريه في ذلك الغالبية الساحقة من الجمهوريين الذين اختاروا لهذه الانتخابات مرشحين يشككون سلفًا بنتائج الإقتراع ويعتمدون سياسة اثارة خوف الناخبين وغضبهم بمساعدة اعلام فقد موضوعيته ومهنيته وقضاء يستنزف نزاهته باضطراد واثرياء كل همهم التهرب من الضرائب والحد من قوانين حماية البيئة والمستهلكين. وجد هذا التوجه الخطير ضالته الأثيرة في التضخم الاقتصادي الذي اعقب الخروج من حقبة وباء كورونا، وخصوصًا ارتفاع أسعار الوقود، ليصوب على إدارة بايدن وسياسة الديمقراطيين، بتواطؤ صريح من كبرى الشركات التي تظهر تقاريرها الفصلية انها حققت ارباحًا خيالية في ظل التضخم بسبب تحكمها بالأسعار واساليبها الاحتكارية. وكانت الصورة واضحة لمن يريد أن يرى. كانت الديمقراطية نفسها في خطر.

انجلت نتائج الانتخابات، وفق القراءات الأولية، عن نتائج مدهشة لو لم تكن الظروف غير عادية. أحرز الجمهوريون تقدمًا بسيطًا في مجلس النواب وعادوا الى الغالبية بفارق خمسة مقاعد، وهو الأقل في تاريخ الكونغرس، فيما فشلوا في استعادة مجلس الشيوخ الذي لم تحسم نتائجه بعد في اربع ولايات متأرجحة الولاء هي ويسكونسن، جورجيا، اريزونا ونيفادا حيث يحتاجون الى الفوز في ثلاث منها وهو أمر مستبعد لأن الأرقام المحققة حتى الآن تظهر تقدم الديمقراطيين في ولايتي اريزونا وجورجيا التي سيكون عليها اجراء دورة انتخاب جديدة في السادس من كانون الأول / ديسمبر المقبل لإختيار سيناتور من المرشحَين اللذين حصلا على اعلى الأصوات في هذه الدورة حيث لم يحرز أحد نسبة النصف زائد واحد من الأصوات.

لكن هذه النتائج وإن لم تطابق التوقعات النمطية ولم تؤدِ الى فوز جمهوري كاسح، تنطوي على معطيات تنذر بما هو أسوأ في الانتخابات العامة التي ستجري بعد سنتين. يتمثل المعطى الأول في تكريس ترامب كزعيم أوحد للمحافظين، وهذا يعني أنه سيكون صاحب الكلمة الفصل في مجلس النواب الذي سيرأسه كيفن مكارثي أحد أكثر الشخصيات تملقًا له، وبالتالي سيكون ترامب المرشح الجمهوري للرئاسة بلا منازع فعلي، ويثير المعطى الثاني المخاوف من اعتماد مجلس النواب سياسة انعزالية تحت شعار "أميركا اولًا" ما سيؤدي الى تعويم حليف الجمهوريين الموضوعي الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المتورط في أوكرانيا، المهددة بقطع المساعدات الأميركية الحيوية، اما المعطى الأخطر فهو اظهار الانتخابات أن نصف الأميركيين على الأقل يقدمون التعصب العنصري على السياسة والمصلحة العامة ولا يتوانون عن مغازلة الفاشية التي يرون فيها خط الدفاع الأهم عن امتيازات المسيحيين البيض ذوي الأصول الأوروبية الذين لا يجدون غضاضة في تكرار التجربة الأوروبية نفسها ولو بعد قرن من الزمن وحربين عالميتين وفشل هائل.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها