الأربعاء 2022/11/23

آخر تحديث: 13:09 (بيروت)

المونديال وعولمته الأخلاقية

الأربعاء 2022/11/23
المونديال وعولمته الأخلاقية
increase حجم الخط decrease

لا جدوى من جماليات كرة القدم من دون لعبة الانتماءات. تتكثف الإثارة في الرهانات المعقودة على الهويات بأشكالها، من أندية الأحياء والمصانع في صورتها الأولى، إلى الفرق الوطنية. ومع عولمة اللعب مثل عولمة كل شيء آخر، اكتسبت خريطة الولاء مرونتها، ليوزع إخلاص المرء، أو لنقل إخلاصاته بصيغة الجمع، بين فرق الدوريات الأوروبية وربما دول لاتينية بعيدة ودوائر للانتماء بحسب اللغات والاثنيات وتواريخ وجغرافيات حقيقية ومتوهمة.

مع المونديال، تعود المنافسة إلى الصيغة الأبسط للانتماءات والأكثر تسييساً. فالدولة القومية هي وحدة البناء الأولى للنظام الدولي ومؤسساته، وكذا للرياضة ودوراتها الإقليمية والعالمية. وحتى هؤلاء، ممن لا تحظى فرقهم الوطنية بشرف المنافسة، فإن خياراتهم في معظمها تظل مثبتة على أطالس الحدود السياسية. فالولاء يذهب لصالح منتخبات وطنية، حتى وإن لم تكن منتخبات بلادهم.

تلك المعارك التي تدور بلا حرب بين الفرق/الدول، فيها احتمالات طوباوية لخلخلة تراتبيات عالم السياسة، قد ينتصر فيها المهزومون والضعفاء أو تصعد الدول الصغيرة إلى القمة بفعل عدالة بلاغية. هكذا تثبت الكرة خريطة السياسة وتعبث بها في آن، أو بالأحرى ترسخها عبر خلخلتها الرمزية. إلا أن هذا وحده ليس ما يسيّس المونديال، فالبطولة الدولية مثل رياضتها، تفترض نوعاً من المساواة بين جميع المشاركين، ولجميع المنتخبات المؤهلة حظوظ متساوية بغض النظر عن أحجامها وأوزانها في عوالم السياسة أو الاقتصاد، وتستند تلك المساواة إلى توحيد قياسي للقواعد، يفرض على الجميع منظومة واحد من قوانين اللعبة. وبشكل ما، تعكس تلك القياسية صورة مصغرة وأولية ومكثفة من العولمة.

في خضم حملة من النقد تتعرض لها قطر يصف تقرير لـ"بي بي سي"، البطولة الحالية بأنها الأكثر إثارة للجدل في تاريخ المونديال، وهي كذلك بالفعل. فوز دول عربية بأحقية تنظيم المونديال للمرة الأولى، يعني اعترافاً من نوع خاص، يتجاوز الرياضة ويتجاوز مسألة التنظيم، ويفهم الجميع هذا جيداً. من ناحيتها عوّلت الدوحة، وباستثمارات هائلة، على صك الاعتراف هذا لترسيخ وضعها كمركز تأثير إقليمي في خضم منافسة خليجية-خليجية، وكذا لتوسيع طموحاتها وإثبات أحقيتها بأن تكون أحد المراكز العالمية لجذب الأعمال والاستثمارات والسياحة.

إلا أن ذلك الاعتراف لا يحل هيناً، فالميديا الغربية تشن حملة بخصوص ملفات حقوقية واجب التعرض لها حقاً، لكن وبفضل استعلاء أخلاقي غربي تجنح الحملة إلى المبالغات وعدم الدقة، مما يفقدها قدراً من مصداقيتها. ويأتي موضع القلق بالأساس من "الإسلامي"، منع الكحوليات وقمع النساء والمثليين. هنا كما في كل موضع آخر، لا تسعى العولمة لفرض معايير قياسية بالمطلق، فهي في حركتها عبر الحدود تقبل بصور من التنوع، بل وتعد تلك الفسيفساء العالمية إحدى ميزاتها وعلاماتها الأساسية. لكن هذا التنوع يظل خاضعاً لهوامش معينة من الحركة يساراً أو يميناً، وتبقى تلك التنويعات خاضعة لتراتبية قيمية، تضمن فيها النسخ الغربية المقام الأعلى بكل تأكيد. في هذا السياق، يمكن أن تتضمن حفلة افتتاح المونديال أو قواعد التنظيم، عناصر واعتبارات ثقافية محلية أو شبه محلية تتراوح بين الأصالة والاستشراق. ويتلقف قطاع من الجمهور العربي تلك العناصر الثقافية باعتبارها نصراً للإسلام وللمعايير الأخلاقية المحلية. ففي ظل عالم تهيمن فيه الأكواد الأخلاقية الغربية، وشعور عارم بالاضطهاد والدونية تعانيه غالبية سكان المنطقة، يبدو مونديال الدوحة في خيال الكثيرين فرصة لإعادة الاعتبار للذات وتأكيدها، والترويج لمعاييرها إن لم يكن فرضها على الآخر.

تمر العولمة القيمية بلحظتي مد وجزر متزامنتين. فمن ناحية ومع صعود الخطاب الحقوقي أضحت كل مناسبة كبرى، سواء محلية أو عالمية، فرصة للتعقيب السياسي والمطالبات الحقوقية. لكن ذلك الإلحاح، بالإضافة إلى أنه يشي باكتساب الأخلاقوية السياسية أراضي جديدة وممتدة في المجال العام، فإنه يشي بكثير من التوتر والتشكك الذاتي والقلق من أن امتلاك تلك الأراضي يظل هشاً وغير مضمون. فانتصارات أقصى اليمين السياسية في الغرب، بالإضافة إلى توسع النفوذ الصيني ومؤخراً الحرب الروسية في أوكرانيا، كل هذا يظهر كتهديد وجودي للمنظومة الأخلاقية القائمة. وعلى خلفية ذلك الشد والجذب، مع عوامل أخرى بالطبع، ينال المونديال الحالي القدر الأكبر من الجدل.

في النهاية تفرض العولمة تسوياتها، تسمح بنسخ متنوعة من نفسها، هجين من المحلي والعالمي القياسي، مع مساحات لصراع هويات في حدود آمنة، سواء داخل الملعب أو خارجه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها