الخميس 2022/11/17

آخر تحديث: 05:31 (بيروت)

عاملونا بلطف.. نحن الغرباء في المونديال

الخميس 2022/11/17
عاملونا بلطف.. نحن الغرباء في المونديال
مارادونا في مباراة الأرجنتين التاريخية أمام أنكلترا 1986 (غيتي)
increase حجم الخط decrease

يعاملنا محبو كرة القدم، مهووسوها بالأحرى، معاملة أبناء المدن العظيمة لسياحها الذين يتذكرون اللعبة في المناسبات، كل أربع سنوات. بينما أبناء المدينة يركضون إلى ممارسة هوايتهم، يبدون تأففاً عنيفاً من وقوفنا الأبله في طريقهم، شاردين على الأرصفة متلفتين حولنا لنعلم أين نحن.
تزعجهم، أكثر ما تزعجهم، الأسئلة البديهية. لا. ليس عدد اللاعبين أو سبب اختيار ألوان الملابس، أو معنى "أوف سايد" المعقد أبداً. هذه كليشيهات مضى وقتها ولم تعد مضحكة. تزعجهم، بالأحرى، الأسئلة العادية، عن أسماء لاعبين نجوم، غير ميسي ورونالدو، وعن مديرين فنيين لم نرهم أو نسمع بهم من قبل، وعن مهاراتهم، و، لا سمح الله، عن طلبنا الخجول منهم بأن يشرحوا لنا خطة المدرب، أو عن فرص كل فريق بالفوز بناء على قدراته.

هم يتعاملون معنا كأنهم يملكون سر بناء الأهرامات، ونحن نطلب منهم أن يفشوا، بمثل هذه السهولة، مثل هذا السر. وهم، إلى حد ما، محقون في تذمرهم منا، لأننا، ببساطة، لم نشاهد مباراة واحدة خلال السنوات الأربع الفائتة بعد آخر كأس عالم، وكانت أكبر مشاركاتنا في أي حديث كروي تقتصر على كلمات محرجة جداً، مثل بيليه أو مارادونا أو دور الرأسمالية في توحش اللعبة.

محقون، لأننا دوماً نأتي متأخرين، ولأن من يريد أن يكون محترفاً في عشق كرة القدم، عليه أن يجتهد في المتابعة الحثيثة التي هي نفسها متعة يبدو أنها لا تضاهى. عليه أن يرهق عينيه في قراءة أخبار هذا العالم التي تمضي في خط موازي الأهمية لأخبار العالم العادية، من حروب وغيرها من تفاصيل مملة. وعليه أن يصنع، بدقة ساعاتي سويسري، رأيه الخاص بما يحدث فيها، وبتحليل كل مباراة، لأنه سيواجه أتراباً قساة، قد لا يغفرون له زلة لسان، أو تقديراً في غير محله حول ركلة ما، أو صدة حارس مرمى، أو تسديدة حرة، أو تشكيلة لاعبين.

هذا عالم تام، كامل متكامل، مغلق على نفسه، تحكمه قوانين معقدة من العصبية الشديدة والعواطف الجارفة والأدرنالين الذي يصل إلى مستويات غير مسبوقة في أي لعبة أو نشاط أخريين. عالم قد تتسبب فيه خطوة لاعب ناقصة بكوابيس تمتد، حرفياً من طرف الكرة الأرضية إلى طرفها، حيث الشتائم، كما التضرع لله، سيكون بكل اللغات. عالم مشحون بجنون عميق ورائع، ليس لنا، نحن الذين لا نعيش فيه، إلا التحسر على عدم إصابتنا بلوثته الساحرة.

هنا مثل يقرّب الفكرة: يمكن لأي كان ألا يحب فيروز أو أم كلثوم. هذا حقه، لكنه، في آخر النهار، هو الخاسر بحسب مهووسي الأيقونتين. سيخسر المشاعر كلها التي لن يحس بها أبداً في حياة واحدة لن تمر عليه ثانية. لعبة كرة القدم عند مهووسيها، هي تماماً فيروز الفيروزيين. وحين يقول شخص ما لأحد عشاق فيروز إنه يحب الاستماع إليها صباحاً، مع القهوة، فهذا كلام لا يحيد قيد أنملة عمن يبدي إعجابه باخضرار ملعب كرة القدم، أو يسأل عن الراية المرفوعة عند الكورنر، وعن سبب وجودها.

محقون مهووسو كرة القدم بتذمرهم من الطارئين الذين يقحمون أنوفهم في لعبتهم المفضلة لشهر كامل يقضونه في طرح الأسئلة الغبية، ثم يختفون كأنهم لم يكونوا. محقون، بالأحرى، إلى حد ما. فهم خبيثون. يضمرون غبطة لا يمكنهم إخفاءها. هذا الشهر هو فرصتهم السعيدة التي لا تتكرر إلا كل أربع سنوات، للشعور بتفوقهم على شركائهم في الإنسانية، الأقل حظاً منهم في حب كرة القدم. أي إحساس بالرضا الذاتي أكبر من التململ من المستجدين ومشيهم في المونديال مشي الذين يمدون سواعدهم أمامهم في ظلام دامس، عالمهم الذي نأتي إليه بكامل إرادتنا، لكن من دون السامري الطيب الذي يأخذ بيدنا ليرشدنا إلى كيفية الاستمتاع به؟ أي لحظة لؤم دفين يخرجونها حين القدرة بدل المغفرة؟ أي طبق انتقام بارد يجلسون سوية، كأخوية ماسونية شديدة التكتل على ذاتها، لالتهامه، والتهامنا معه، كل أربع سنوات؟ يستغلون، حتى آخر قطرة من دمنا، كبوتنا، نحن الأميين الجهلة، كي يتبادلوا نظرات التهكم علينا، في ما بينهم، وكي يفتحوا نقاشاً تقنياً، عنيفاً في مفرداته التقنية، ليشعرونا أننا غرباء بينهم، لنعود لا نفهم حرفاً مما يقولون. وكل هذا الظلم كي يظهروا تفوقهم علينا، كأنهم هم الآتون من الكوكب الآخر، بحضارته المتقدمة، إلينا، نحن، البدائيون الوحشيون، كي يرمونا خارج دائرتهم، وكرتهم المستديرة. كي يعاملونا كسياح سذج في مدينتهم العظيمة.

حقهم؟ حقهم كل هذا التبجح والتفاخر والتشاوف علينا فقط لأنهم محترفو عشق كرة القدم؟ سأجرؤ على القول: كلا. جبران خليل جبران كتب "أبناؤكم ليسوا لكم". وعلى هذا القياس، إذا كانت كرة القدم نفسها ابنتهم، فإن كأس العالم ليست ابنتهم، بل ابنة الحياة، ابنة العامة أمثالنا. هي ملك البشرية جمعاء. كأس العالم ليست مجرد حدث عالمي يتكرر كل أربع سنوات. هي، وليُغفر لنا هنا بعض الحنين، صانعة الذكريات.

لا يمكن للواحد منا تذكر تفاصيل سنة مضت. أين كان وماذا فعل في السابع من أيلول مثلاً. لكنه سيتذكر، بوضوح، أين كان في كؤوس العالم التي عاشها، التي مرت على حياته، طفلاً ثم مراهقاً، ثم بالغاً.. في أي بيت شاهد المباريات وعلى أي كنبة جلس، وبقرب من. في أي مقهى. من ناكفه حين خسر فريقه المفضل، وممن سخر حتى الثمالة حين فاز فريقه. سيتذكر عينيه وهما تنظران من أدنى إلى أبيه المنبهر يستعيد، مرة بعد مرة، دهشته بهدف دييغو مارادونا الذي لن ينسى. سيتذكر ملامح أبيه المنبسطة وفرحته العارمة. سيتذكر أن أباه لن يتاح له أن يشاهد المونديال لا هذه السنة ولا بعدها، وأن شيئاً لن يدهش أباه بعد الآن. سيتذكر مارادونا نفسه، وهو ينفلت بين اللاعبين، لاعباً بعد لاعب، ليسجل هدفه الخرافي وهو ينطرح أرضاً، ثم يقوم بقامته الصغيرة، المدكوكة دكاً، رافعاً قبضته مشدودة كحجر، في الهواء. سيتذكر. المونديال ليس مسابقة يفوز فيها الأقوى والأوفر حظاً. المونديال لحظة هائلة كهذه نحفر في الذكرى إلى الأبد. المونديال هو طبقات متتالية من الذكريات. أعمارنا التي نستعيدها كل أربعة أعوام مرة، لنسترجع أين كنا في آخر مرة. كيف كنا وكم من الشَعر فقدنا، وكم كسبنا من تجاعيد وحكمة ونضوج وتجارب وأخطاء وبلاهات. من فقدنا من ناسنا الذين نحبهم، وكم كسبنا من أصدقاء جدد. كم خسرنا من قصص حب. كم خيبة مرت علينا. كم لحظة حزن ولحظة فرح ولحظة متعة ولحظة انتشاء بتحقيق إنجاز لا هم إن صغر أو كبر. كم راكمنا.

المونديال لحظة بشرية عامة، لكنه أيضاً لحظة شديدة الخصوصية، بالغة الحميمية، يستعيد فيها الواحد منا نفسه، ليسألها وتسأله، ليحنّ عليها وتحن عليها، ليحضنها وتحضنه.

أعلاه قد يكون إمعاناً في الحنين فرضه جنوح الكتابة. لا بأس. لنعد إلى أصدقائنا، محترفي كرة القدم، مهووسيها. نحن لا نسألهم رد القضاء، ونحن نغزو عالمهم المستدير، بل نسألهم اللطف فيه. تحملونا قليلاً، فلدينا الكثير من الحنين ومن الذكريات. وهو شهر ويمضي. عاملونا بنبل ولطف، نحن الطارئين، الغرباء. بعد قليل نغادركم، ويعود المستطيل الأخضر، كما يحلو لكم أن تسموه، لكم وحدكم. وسامحونا إن أزعجناكم بضجتنا الطارئة. كرة القدم لا تحلو بلا ضجة. سامحونا، أو لا تسامحونا، شأنكم. أنتم الخاسرون في آخر المطاف. من دوننا، لن يكون المونديال أحلى، ولن يكون محمولاً على كل هذا المعنى والحنين. لن يكون محمولاً على كل هذه الذكريات.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها