الأربعاء 2022/11/16

آخر تحديث: 06:55 (بيروت)

حين تذكرنا عائلة سيف بمعنى السياسة

الأربعاء 2022/11/16
حين تذكرنا عائلة سيف بمعنى السياسة
سناء سيف، شقيقة علاء، خلال تظاهرة أمام مركز المؤتمرات حيث تنعقد فعاليات "كوب 27" (غيتي)
increase حجم الخط decrease
خطاب علاء عبد الفتاح الأخير الذي سلمته إدارة السجن إلى والدته، وضع حداً للجزع على حياته، وأجاب على أسئلة أقلقت أسرته ومحبيه والمتضامنين معه، إن كان حياً وإن كان واعياً. السطور القليلة المكتوبة بخط يراوغ القراءة، هو خط علاء فعلاً، وتخبرنا بأنه عاد لشرب الماء بانتظام وبأنه يتلقى عناية طبية وإن وظائفه الحيوية جيدة، ولاحقاً بأنه فض إضرابه عن الطعام. لكن ما يظل مجهولاً هو تلك الفجوة المغلفة بالصمت، بين إعلانه البدء في الإضراب الكلّي وبين خروج رسالته تلك. هل تعرض للإطعام القسري؟ أو علّقت على جسده المتداعي أنابيب التغذية الوريدية، على الضد من إرادته، ربما ويداه مقيدتان إلى سريره؟ أم أن وظائفه الحيوية تهاوت بفعل الإضراب الطويل، وحُمل إلى المشفى لإنقاذه وهو فاقد الوعي؟

على بشاعة تصور الإجابات، تبقى تلك الأسئلة أقل إلحاحاً، طالما إن حياته لم تعد على المحك. لا تغلق الرسالة القصيرة باب معاناة علاء ومعه آلاف السجناء، وعدد من المختفين قسرياً، يتزايدون يوماً بعد ويوم، على الرغم من حديث السلطة عن "الحوار". إلا أن تلك الأيام القليلة الماضية، والمشحونة بالأحداث، قام خلالها آل سيف ومعهم آلاف المتضامنين في الداخل والخارج، بإعادة تعيين حدود السياسة، ذلك المعنى الذي يسعى النظام إلى محوه من الأفق الرمزي، كما اقتلعه من عالم المؤسسات ومن خريطة الشوارع والميادين.

في وحدة شائكة بين نقيضين، يأتى قرار الإضراب الكامل. فيه اليأس المطلق والمخاطرة القصوى معاً، يأس مَن جُرّدوا من كل وسيلة وأداة وصوت للمقاومة أو للاعتراض أو للمقايضة، سوى بأجسادهم المحضة، الجسد في حده الأدنى، مادة عضوية تنبض بقياسات الوظائف الحيوية، كدليل أخير على الوجود، ومساحة أخيرة لممارسة فعل الإرادة وتأكيدها. ففي خضم كل هذا القمع والانتهاك، لا يعود سوى خيار الموت هو الممكن إتيانه بكرامة. أما ذلك اليأس في شموليته، فلا يساوي التسليم أو الاستسلام، بل على العكس يحفز قفزة باسلة نحو حافة الفناء. فإن جُرّد المرء من كل أمل، تبقى أمامه مواجهة مصيره الأخير بشجاعة. فالموت كفعل تام، لا يمكن الرجوع فيه، لا يوظَّف على أنه سلاح أو تهديد، بل كوصف لقضية هؤلاء المُقدِمين عليه والشهود من حولهم.

تقع السياسة في تقاطع مساحات الشخصي والعام، وفي دمجهما، بجعل الفردي همّاً للجميع، والجماعة خلاصاً للفرد. في العموم، يتأسس كل ما هو سياسي على التضامن، تلك القاعدة التي يسعى النظام لتحطيمها بالكامل. وخارج السجن، كانت عائلة سيف، بدأب ومثابرة بطولية، تطرق كل باب للمطالبة بحقوق علاء، وتحشد الدعم والتضامن من الداخل والخارج، وعلى كل مستوى جماهيري ورسمي. وعلى الرغم من الألم والشعور المرير بالغبن، فعلوا هذا كله بكل رباطة جأش وعقلانية وهدوء ورزانة، وبراغماتية أيضاً، في محاولة بعد أخرى، من دون يأس أو كلل. حولهم وحول قضيتهم، اتسعت دائرة المتضامنين، من أول المُحامين، إلى مَن يتمنون لهم الفرج في السر. داوئر يجمعها التعاطف والشعور بالشفقة والغضب تجاه ضحايا الظلم، وتجاه بعضهم البعض، ولا يرنو مَن فيها لمصلحة سوى الإخلاص لإنسانيتهم والإيمان بالعدل.

لم يُفرَج عن علاء، لكن مناسبة "كوب 27"، التي أرادها النظام مهرجاناً عالمياً لتلميع صورته، انقلبت استعراضاً لخزيه ومهانته، وبياناً طويلاً لكل مظالمه وأفعال عسفه. وليس هذا المكسب الوحيد. فما ينبغي أن نكون ممتنين حقاً لأجله، هو ذلك المثال الذي ضربته عائلة سيف والمتضامنون معها. فرغم كل محاولات السلطة، ها هم يعودون ليذكّرونا بفحوى السياسة، بمعناها النبيل والشجاع والغيري والمُحبّ.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها