الأحد 2022/11/13

آخر تحديث: 07:21 (بيروت)

متغيرات حزب الله:استيعاب أم تحول؟

الأحد 2022/11/13
متغيرات حزب الله:استيعاب أم تحول؟
increase حجم الخط decrease

 يرى البعض أن ثمة معطيات أحدثت تأثيراً قوياً على سلوك حزب الله، وفرضت عليه درجة تكيف جدية مع المتغيرات المحلية والإقليمية، بالتالي حصول تعديل في خطابه، وتحول جذري ولو ضمناً في أولوياته واستراتيجياته. ما دفعه إلى مزيد من "التلبنن"، أي إعطاء أولوية للداخل اللبناني وتحدياته وأزماته ومصالحه على اعتبارات الحزب الأيديولوجية ومهامه الجهادية وتطلعاته الكونية وادعاءاته الميتاريخية.  باختصار دخل حزب الله، بحسب البعض،  في طور جديد ومختلف لا يقتصر على أدائه وخطابه، بل يمتد إلى بنيته الداخلية وتكوينه الذاتي.       

جملة أحداث وعوامل فرضت على الحزب بحسب هؤلاء تقليص تورطه الإقليمي، والتصدي إلى تفاصيل حياتية داخلية كانت بالأمس القريب خارج اهتماماته وبرنامجه. فدور الحزب الإقليمي، الذي كان بالاساس دوراً عسكريا وأمنياً،  وصل إلى خواتيمه وذروته ولم يعد بالإمكان الذهاب إلى أبعد مما فعله أو أنجزه، بحكم وصول مناطق النزاع والتوتر التي كان حزب الله جزءًا فاعلاً فيها إلى حال من الجمود والتريث والانتظار، تمهيداً لحل سياسي قادم.

مع ترقب الحل السياسي في مناطق النزاع، اليمن وسوريا والعراق، يتقدم دور اللاعب الأصيل، وهو الإيراني والأمريكي والروسي والتركي والخليجي، ويتراجع دور التنظيمات والميليشيات بمن فيها حزب الله، التي كانت تحارب بالوكالة عن الأصيل لخلق معطيات قوة وأرضية صلبة يمكن للأصيل استثمارها وتوظيفها في لعبة التفاوض الصعبة والمعقدة والطويلة الأمد.  هي وضعية فرضت تقلصاً تدريجياً لانتشار الحزب ونهاية قريبة لمهامه الإقليمية بحكم وصول المواجهة العسكرية في مناطق الصراع إلى حالة إشباع ونقطة توازن واستقرار لم يعد بالإمكان كسرها أو تغيير توازناتها الراهنة.  

كذلك فقد كان للانهيار الاقتصادي الذي حصل في لبنان أثر سلبي بل مدمّر على قاعدة حزب الله التي توفر له العمق المجتمعي والقوة التمثيلية. هو وضع عرَّض صدقية الحزب للتهمة بحكم شراكته مع منظومة الفساد، وشتت طاقة جمهور الحزب وهدد تماسكه وأضعف شدة ولائه له، بعدما تقدم الهاجس المعيشي عند هذا الجمهور على الاهتمام الاستراتيجي والولاء السياسي. بالتالي اضطر الحزب لتكثيف حملاته الدعائية ومبادراته السياسية وعلاجاته الاقتصادية الموضعية والمحدودة، ليقينه بأن انهيار الداخل اللبناني وسقوط جمهوره في الفقر والعوز، هو أيضاً انهيار لقوته المركزية وزعزعة لقاعدة انطلاقه الصلبة التي يطل بها على العالم.

لم يعد انجرار لبنان إلى الفوضى في صالح حزب الله، لأنه يهدد مكتسباته السياسية الحالية، ويعرض نفوذه المعنوي للسقوط، بحكم أن حزب الله نجح في بناء شبكة مصالح وأرضية نفوذ وفي ترسيخ قواعد لعبة، مكنته جميعاً من أن يملك الكلمة العليا والنهائية في الموضوعات المفصلية والسيادية. هي مكتسبات لم يعد بإمكان الحزب التفريط بها أو تعريضها للسقوط أو الانهيار، بالتالي تجده يبذل جهداً استثنائياً للحفاظ على مقومات الواقع القائم، وتأمين حد استقرار أدنى، يحول دون تفجر الأمور وخروجها عن السيطرة، ودون الدخول في المجهول الذي يشي بمفاجآت ومتغيرات غير متوقعة تُسهِّل صعود وظهور قوى منافسة وقادرة على تغيير قواعد اللعبة وإنتاج ميزان قوى آخر.  

أما العامل الأهم، فهو توقيع ملف ترسيم الحدود مع إسرائيل، والذي كان حزب الله المقرر الأساسي فيه. هو ملف غيَّر في منطق العلاقة مع "العدو" الإسرائيلي، من عدو مجهول لا حقيقة له، إلى كائن سياسي قانوني معترف به، بل كائن شريك في عوائد الإنتاج النفطي، على الرغم من بقاء الكثير من الملفات الحدودية بخاصة البرية عالقة معه. هو تغيّرٌ لا تقرره النوايا والمقاصد بل تقرره وتثبته طبيعة ومقتضيات توقيع اتفاق الترسيم نفسه، مهما بلغت شدة الإنكار وتفنن قادة الحزب في اللعب بالكلمات والألفاظ.  ما فعله حزب الله بادعائه فضيلة إنجاز الترسيم أنه ألزم نفسه أيضاً بقيود وضوابط وضمانات أمنية وسياسية يستلزمها اتفاق الترسيم نفسه للطرفين، لزوم السبب لمسببه والعلة لمعلولها.

لم ينجز حزب الله اتفاق ترسيم فحسب، بل حقق اعترافاً أمريكياً به بصفته مفاوضاً أصلياً  داخل المجال اللبناني.  هو اعتراف يفرض على المعترف به، أي حزب الله، التقيد بحدود المساحة المعترف بها له، أي لبنانيته. صحيح أن السجال بين الطرفين لم ينته، لكن طبيعة المواجهة قد تغيرت: من مسعى أمريكي لمحاصرة الحزب وتقويضه، إلى مسعى للحد من نفوذه وهيمنته داخل الساحة اللبنانية.  بالتالي تغيرت قواعد الاشتباك بين الطرفين: من حرب أمنية وربما اقتصادية مفتوحة إلى سجال ومنافسة سياسييتين داخل لبنان. هو تحول يفيد ويريح الطرفين في آن: يفيد الأمريكي لجهة تقليص مساحة ونوعية المواجهة مع حزب الله، ويفيد الحزب لجهة حيازة اعتراف سياسي به وتخفيض شراسة الملاحقة الأمريكية له.  

جميع هذه المعطيات، يراها البعض عوامل موضوعية، فرضت نفسها على حزب الله مع قطع النظر عن مقاصده وغاياته ونواياه، وأرغمت الحزب على تضييق مساحة انتشاره الإقليمي، وحصر نشاطه داخل المجال اللبناني،  وتحوله إلى ما يقرب من أن يكون: في الأحسن شرطي حدود مع إسرائيل بحكم تقيده بالضوابط القانونية والإلزامات الدولية لاتفاق الترسيم، وفي الأسوأ مفاوض عنيد معه. هي معطيات تفرض تغيراً جذرياً في الأداء الأمني والسياسي لحزب الله، وتستلتزم تحولاً في معنى ووظيفة وجدوى "المقاومة"، بعد تحول الحزب من ممانع ومقاوم لوضع سابق، أي فاعل أمني لتغيير وكسر واقع سياسي سابق، إلى مساهم وشريك في ترسيخ وضعية حدودية وإقليمية جديدة، أي فاعل سياسي يسخر قدراته الامنية لترسيخ وتثبيت واقع سياسي قائم.

قد تفرض هذه المعطيات، بصفتها عوامل خارجية، تغيراً فعلياً في أداء الحزب، وتحولاً في أولوياته ونسق تحالفاته ولغة تعبئته ومنطق خطابه، مع وجود مؤشرات عديدة تؤكد هذا التغير والتحول.  لكن هل هي تغيرات وتحولات أصيلة وجوهرية أم أنها عرضية وعابرة؟ أي هل هي لهضم المعطى أو الحدث تمهيداً للسيطرة عليه وتجاوزه، أم أنها دلائل على دخول حزب الله في طور جديد ذي عقل جديد وأطر تضامن مختلفة ونظام ولاء وأسس شرعية مفارقين؟ هو سؤال عن أي لبنان يعمد الحزب إلى التلبنن داخله، عن مدى توافق ظاهر الحزب مع باطنه، خطابه مع حقيقته، مواقفه مع أطر تفكيره، سلوكه مع معتقده، ادعاءاته مع أيديولوجيته، تواضعه وسلميته مع فائض قوته.

سؤال يستدعي البحث عن معطيات آخرى في مكان آخر تحت سطح الاشياء ووراء ثنائيات الحزب المتناقضة والمحيرة، ليكون بالإمكان تقديم تأويل مختلف وفهم آخر.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها