الأحد 2022/10/02

آخر تحديث: 08:56 (بيروت)

أميركا:باب اللجوء الإنساني نافذة الكيد السياسي

الأحد 2022/10/02
increase حجم الخط decrease

مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية الحساسة التي ستجري في الولايات المتحدة في الثامن من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل، توالى وبشكل مريب انطلاق قوافل المهاجرين من أميركا الوسطى والجنوبية عبر المكسيك للوصول الى أميركا سيرًا على الأقدام طلبًا للجوء الإنساني. تحولت هذه القوافل منذ تصدرت الهجرة غير النظامية أجندة المحافظين وصارت أيقونة الجمهوريين الأثيرة في اللعبة السياسية، الى حدث جلل يتكرر عشية كل انتخابات، يستغله الإعلام اليميني بشراهة لتخويف الأميركيين من الخطر الداهم الذي لا يتوانى السياسيون الموالون للرئيس السابق دونالد ترامب عن وصفه بالغزو الخارجي بعدما أثبتت تجربته أنه ورقة شبه مضمونة للفوز الإنتخابي.

ومع أن عدد المشاركين في هذه القوافل لا يتجاور بضعة آلاف من الرجال والنساء والأطفال ويعتبر نقطة في بحر المهاجرين الذين يصلون بالآلاف يوميًا (حوالي 6000) الا انها تحظى بتغطية إعلامية هادفة وموجهة على مدار الساعة حيث تصورها الكاميرات كزحف غاضب وتحرص الشاشات والتقارير على بث ونشر مقابلات استفزازية تعزز الصورة النمطية التي يحاول اليمين تكريسها في الأذهان، لذلك يوجه الديمقراطيون وانصار المهاجرين أصابع الإتهام الى الجمهورين بتدبير تلك القوافل من خلال التعاون مع شبكات التهريب ووسائل الإعلام اليمينية في بلدان الهجرة للدعوة اليها في توقيت سياسي حساس. وحتى الآن انطلقت ثلاث قوافل؛ الأولى في السادس من حزيران/يونيو الماضي وضمت حوالي 15000، والثانية في الثاني تموز/ يوليو وضمت 500، والثالثة في 22 آب/ أغسطس وضمت حوالي 11000، والحديث جارٍ عن قافلة رابعة قريبًا.

تضافرت عوامل عدة لمفاقمة أزمة طالبي اللجوء التي بلغت ذروة جديدة هذا العام، أولها تراجع جائحة كورونا التي حدّت من الإنتقال عبر حدود دول المنشأ، والثاني إنتهاء رئاسة ترامب الذي تعامل مع المهاجرين بقسوة واستغل معاناتهم لغايات سياسية، والثالث ازدياد الطلب على اليد العاملة الرخيصة في السوق الأميركي في قطاعات الخدمات والضيافة والزراعة الموسمية، والرابع والأهم هو استمرار تدهور الأوضاع الأمنية والإقتصادية والمعيشية في دول المنشأ، خصوصًا فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا والسلفادور وهايتي وكولومبيا والإكوادور وهندوراس (وغيرها من دول الكاريبي) والمكسيك في حين انضمت اليها البرازيل مؤخرًا ليتضاعف عدد المهاجرين منها حوالي 5 مرات هذه السنة. لكن أسوأ العوامل هو التوظيف السياسي لرافد أساس من روافد تكوين وإزدهار بلد تمكن بفضل الهجرة واللجوء من التحول الى قوة عظمى بمواصفات غير عادية ولم تعاني بعد سيادتها الكونية من الضمور والتراجع على غرار الإمبراطوريات الحديثة التي تحولت الى كيانات قومية عادية تتنازعها تيارات شوفينية تزيد من انحطاطها من تركيا الى بريطانيا وبينهما فرنسا والنمسا والاتحاد السوفياتي، والتي لم تقدّر قيمة الإستيعاب البشري المتجدد (كان عدد سكان أميركا عند الإستقلال حوالي مليونين و600 الف نسمة، نصف مليون منهم من العبيد، الآن يفوق العدد 334 مليونًا، وكان سكان بريطانيا 8 ملايين منهم مليونان و350 الف عسكري  والآن أقل من  68 مليونًا، وكانت فرنسا 28 مليونًا والآن 65.5 مليونًا، وكانت روسيا 29 مليونًا والآن 146 مليونا. وهذا موضع بحث آخر).

يشير تقرير رسمي صادر عن مصلحة الجمارك وحماية الحدود الى أن عدد المهاجرين الذين تم اعتراضهم على الحدود الجنوبية لأميركا في السنة المالية التي انتهت آخر أيلول/سبتمبر تجاوز للمرة الأولى مليونين ومئتي الف شخص، بينهم أكثر من نصف مليون من القاصرين غير المصحوبين بأهلهم، تمت إعادة الثلثين منهم الى المكسيك، فيما تم حجز الباقي في مراكز حكومية في الولايات الحدودية للنظر في طلبات اللجوء التي ينص قانون الهجرة واللجوء الصادر عام 1980 على البت بطلبات القاصرين والعائلات التي تصطحب أطفالًا على الأراضي الأميركية، وهو القانون الذي اساءت إدارة ترامب استخدامه فعمدت الى فصل الأطفال عن ذويهم واعتقلتهم في مراكز تفتقر الى ادنى الشروط الإنسانية بعد طرد البالغين من مرافقيهم محدثة حالة غير مسبوقة من التعسف والغطرسة، حيث لم تتوفر للأطفال اية رعاية مناسبة، وتعرض المراهقون منهم وخصوصًا الإناث للإغتصاب والتحرش فوق حرمانهن من الإجهاض للأجنة الناتجين عن ذلك. (كان رقم المعتَرضين عام 2021، حوالي مليون وسبعمئة الفًا).  

عندما تسلك أية قضية مسارًا سياسيًا كيديًا تفقد الوقائع والأرقام قيمتها ويتقدم عليها الإستنساب والتضليل. يصّر انصار ترامب وهم أكثرية الجمهوريين على تحميل الديمقراطيين وإدارة جوزيف بايدن مسؤولية تدفق المهاجرين غير النظاميين، ويدرجون ذلك في سياق الترويج لنظرية نازية المنشأ تتهم خصومهم بمحاولة تغيير ديموغرافية أميركا لإستبدال الأكثرية البيضاء المسيحية الأوروبية الأصل من غير اللاتينيين بأكثرية متعددة القوميات والأعراق والديانات، وهم في اطار سعيهم الدؤوب لإستثمار ملف الهجرة كورقة انتخابية رابحة يتجاهلون الحقائق الموثقة في التقارير الرسمية التي تظهر أن الإدارات الديمقراطية تفوق في أدائها لتطبيق القوانين السارية أو تتساوى على الأقل مع الإدارات الجمهورية. يتضح ذلك في ميدانين رئيسين، ترحيل المخالفين وقبول اللاجئين الدوليين. أرقام الترحيل في العقدين الماضيين والتي شملت أكثر من خمسة ملايين مهاجر غير نظامي أو من مرتكبي الجرائم الجنائية من حاملي الإقامة الدائمة (لا يشمل الرقم من تتم اعادتهم على الحدود البرية) كانت أكثر في عهد باراك أوباما مثلًا مما في عهدي جورج بوش الإبن وترامب معًا، فيما كانت أرقام المقبولين عبر المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في الأمم المتحدة في السنتين الأوليين من عهد بايدن أقل منها في أية حقبة سابقة، وتراجع عدد اللاجئين السنة المالية قبل الماضية (2021) الى أدنى مستوى لها منذ العام 1980، حيث استقبلت أميركا حوالي 11 الفاً و400 لاجئ من أصل 62 الفًا و200 قررت الإدارة قبولهم، و10742 في العام 2022، من أصل 125 الفًا، بينهم 2511 سوريًا فقط من مئات آلاف السوريين الذين ينتظرون البت في ملفاتهم، ولا أحد من العراق (لأسباب أخرى ستكون موضع مقال آخر).

هذا لم يمنع الجمهوريين من تصعيد الألاعيب السياسية التي كانت غير مألوفة قبل عهد ترامب. تتمثل آخر البهلوانات اليمينية في تعمد حكام الولايات الحدودية مع المكسيك؛ غريك آبت في تكساس و رون ديسانتس، الطامح الى الرئاسة، في فلوريدا ودوغلاس دوسي في اريزونا الى نقل الالاف من اللاجئين الذين يتم السماح لهم بانتظار البت في طلباتهم في تلك الولايات بالباصات والطائرات الى ولايات ومدن يديرها ديمقراطيون مثل نيويورك وشيكاغو وبوسطن وواشنطن العاصمة "رفضًا لسياسات الديمقراطيين المتسامحة مع الهجرة"، ولإرضاء الجمهور المحافظ الذي صار يهوى النكايات على طريقة ترامب أكثر مما يهتم بمعالجة أي ملف إنسانيًا كان أو إنتخابيًا أو سياسيًا.


           


        

 

     

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها