الأربعاء 2022/01/05

آخر تحديث: 07:34 (بيروت)

من البرادعي إلى حمدوك: صعود التكنوقراطي وسقوطه

الأربعاء 2022/01/05
من البرادعي إلى حمدوك: صعود التكنوقراطي وسقوطه
خرجت تظاهرات دعماً لحمدوك المدني ضد الانقلاب العسكري.. فعاد.. ثم استقال (غيتي)
increase حجم الخط decrease

في الموجة الأولى من الانتفاضات العربية، كان الخيار التكنوقراطي حاضراً منذ البداية. فالأنظمة التي حاصرت المجال العام وجففت منابعه، لم تسمح بظهور منافسين على أرضية سياسية. وكان على البدائل أن تأتي من خارج المجال السياسي، ومن خارج البلاد أيضاً. ففي الحالة المصرية، كانت مؤهلات محمد البرادعي، على سبيل المثال، لا تكتسب مرجعيتها من نشاطه السياسي في "الجمعية المصرية للتغيير"، بل سابقة على ذلك، أي من عمله في المؤسسات الأممية، بوصفه موظفاً دولياً كبيراً، ونيله للاستحقاق العالمي على هذا الدور ممثلاً في جائزة نوبل. كانت التكنوقراطية خيار الأنظمة أيضاً، ومن قبل الانتفاضات. فتعيين التكنوقراط في مناصب وزارية وفي رئاسة الحكومات سهّل عملية نزع السياسة عن مسألة الحكم، وتأطيرها كعملية تتعلق بالمعرفة وبالتقنية وبالإجراءات البيروقراطية، ونفت عن السياسي صفة الصراع وأبعاده الأخلاقية.

هكذا، التكنوقراطي في مقابل السياسي، لا يكتسب شرعيته من أصوات الناخبين أو الشعب أو جماعة مصالح أو طبقة، بل من مصادر أخرى، هي المؤسسات الأكاديمية في الخارج على الأغلب، وشبكة الهيئات الدولية ومكافئها المحلي. فيستمد التكنوقراطي سلطته من لقب الدكتور ومن مؤهلاته الدراسية، ومن لائحة طويلة من المناصب ذات الطبيعة الإدارية والتنفيذية في الداخل والخارج. وبالإضافة إلى صفة الكفاءة، توحي تلك المؤهلات بالحياد والموضوعية، بالتعالي على السياسة وانحيازاتها وتضارب المصالح. هكذا، لا يحتاج التكنوقراطي إلى الموافقة الشعبية، ولا يخضع للمساءلة من أسفل، وفي الوقت نفسه، من اليسير تحميله النتائج والتخلص منه، واستبداله بتكنوقراطي آخر بسهولة وبلا تبعات. فالتكنوقراطي يشبه أي تكنوقراطي آخر، وقادر على أداء المهمات نفسها، وقابل للاستبدال بالخفة نفسها.

بالطبع، لم يكن البرادعي، تكنوقراطياً بالكامل. ففي استقباله الجماهيري الحاشد في مطار القاهرة عند عودته قبل الثورة، والصور الأيقونية لتقدمه الصفوف في تظاهرات يناير، دلالة على مرجعية سياسية وشرعية شعبية. إلا أن انسحابه اللاحق من انتخابات الرئاسة، ورفضه التورط في اللعبة السياسية، ومن ثم رجوعه لقبول منصب شبه شرفي بعد انقلاب 30 يونيو، كان تعالياً على السياسي لصالح الهبوط من أعلى. فالتكنوقراطي يكتسب موقعه دائماً كاستحقاق مفروغ منه وبالتعيين، وفي الوقت ذاته من دون سلطة حقيقية أو مستقلة. وبالمنطق نفسه، يستقيل البرادعي سريعاً، من دون أن يجد حاجة لتبرير قراره هذا أو ما سبقه، سواء لجمهوره أو لأي جمهور، فالتكنوقراطي مرة أخرى لا يُساءل.

يوم الأحد الماضي، استقال رئيس الوزراء السوداني، عبدالله حمدوك. تبدو السياقات مختلفة، والسيرة الذاتية للرجلين متفاوتة بشكل كبير. إلا أن المرجعية التكنوقراطية لكل منهما، والكثير من التماثلات في تجربتهما السياسية القصيرة، تكفي لتبرير المقارنة، من دون افتراض التطابق.

يحمل حمدوك، لقب الدكتور أيضاً، ويستمد مؤهلاته التكنوقراطية من سيرة مهنية مرموقة ضمنتها وظيفة كبيرة في إحدى مؤسسات الأمم المتحدة. كذلك، يمكن تقسيم العمل السياسي للرجل إلى مرحلتين. الأولى، مع توليه منصب رئاسة الحكومة على خلفية الانتفاضة السودانية، وباعتباره خياراً توافقياً لائتلاف مدني واسع، شمل أحزاباً سياسية وقوى نقابية وثورية ولجاناً شعبية، وهو توافُق تأسس على مؤهلات حمدوك التكنوقراطية بالطبع، لكنه يظل سياسياً بحسب أسانيده الجماهيرية. أما المرحلة الثانية، والتي قبل فيها حمدوك رئاسة الحكومة بعد انقلاب العسكر على اتفاق التحول الديموقراطي، فجاء بلا أي شرعية سياسية تستمد مبرراتها من الشارع، بل على العكس جاء بالتعيين وعلى خلفية احتجاجات جماهيرية، سقط خلالها عشرات القتلى، وعلى الضد منها. سريعاً اكتشف حمدوك هو أيضاً أن التكنوقراطي بلا سلطة، ويضطر إلى الاستقالة.

في العراق وفي لبنان وفي أماكن أخرى، جاء الخيار التكنوقراطي أيضاً ليتحايل على معضلة الخواء السياسي، أو كحلٍّ سحري لفساد الأحزاب السياسية المستحكم، أو كمحاولة يحدوها أمل زائف لاختلاق توافق يتجاوز أسئلة السياسي الشائكة والحتمية. وفي كل مرة، كان صعود التكنوقراطي قصيراً، وسقوطه مؤسفاً، وفي أحيان كثيرة دموياً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها