الأربعاء 2022/01/26

آخر تحديث: 07:22 (بيروت)

يناير: الذاكرة والنسيان

الأربعاء 2022/01/26
يناير: الذاكرة والنسيان
ميدان التحرير يناير 2011 (غيتي)
increase حجم الخط decrease

بعد أحد عشر عاماً، لم يبقَ من ثورة يناير سوى طقوس لذكرى، تتحايل على وقع الهزيمة بعناد احتفالي ومعايدات شبه موحدة عن عمد، عاماً بعد عام، تفرد بموسميتها طبقات من الحنين بين طبقة للخسارة وطبقة للندم. ألبومات الأيام المجيدة المعاد تصفحها والمعروضة صورها في شبكات الافتراضي، لعلها الدلالة المادية الوحيدة على ما حدث. وثيقة للندم على جنة طُردنا منها، أو صك لإبراء الذمة أمام النفس والأجيال القادمة. الذاكرة في جانب منها، لا تقر بالهزائم ولا الفقدان، بالتعريف هي نقيض التخلي، نوع من التشبث بالزمن ومعاندته في آن.

لكن، في الكثير من التذكر، عبء على الحاضر، والحاضر المثقل بخرابه لا يسمح للذكرى سوى أن تكون مهرباً إلى عجلة النسيان الموسمي، نسيان الحاضر أو تناسيه بمعنى أدق. ولو كانت الذكرى هكذا مقايضة عصية بين مقادير التذكر والنسيان، فكيف يمكننا ضبطها، والماضي هو كل ما نملكه اليوم، وخصوم يناير يسعون من اللحظة الأولى إلى مسح الثورة من التاريخ المدون والتاريخ الحي؟

في صبيحة اليوم التالي للتنحي، بدأ تنظيف ميدان "التحرير" ودهان الأرصفة. محو الجداريات كان خطوة أولى نحو تحويل الميدان كله، ساحة مفرغة من جماهيرها، ونقطة لانطلاق مواكب المومياوات، ومسرحاً للعروض الانتصارية لسلطة الاستبداد المتضخمة. تحتاج الذاكرة إلى الجغرافيا، وإلى إحداثيات لتتجذر فيها، فلا ذاكرة بلا مكان. وطوبوغرافيا المكان يتم كشط ملامحها كل صباح، أحياء تمحى بالكامل بشفرة الجرافات حتى يعاد رسم خرائطها متاهات للنسيان. أما الشهود على ما كانته، فيُقتلعون من أرضها، ويغيبون عنها جسداً كما روحاً، في السجون وفي شوارعها المهيمن عليها الخوف وفي المنافي وتحت ثقل العيش. الهزيمة تعني أن تكون الذاكرة هي الساحة الأخيرة للمعركة، الذكريات بهذه الطريقة أمكنة من نوع آخر، أماكن افتراضية تسور في الخيال، حيث ترسم صورة طبق الأصل من الحقيقة، أو بالأحرى كما كان يجب لها أن تكون.

لا يتذكر المرء وحده، حتى لو ظن هذا. الذكريات تنسج في جماعة، سردية بين أصحاب تاريخ مشترك، عبر لغة رموزها متفق عليها بينهم. حوار لا تعنيه استعادة الماضي ولا اجتراره، بل تضمينه في الحاضر وإعادة فهمه، تنظيم الزمنَين وترسيم حدود الاستمرارية والقطيعة بينهما، ومن ثم تحديد اتجاه التاريخ، إن كان دائماً يرتد إلى الخلف، أو يتأرجح بين ما حدث ووعوده للمستقبل. الذاكرة في اجتماعيتها شأن جيليّ، أي يسلمها جيل إلى آخر، مَن رأوا إلى مَن سمعوا فقط. في ذاكرة الجماعة، كما في التاريخ، مكوّن إيمان وغيبية، فطوبى لمَن آمَن ولم يرَ. عبر الذاكرة، تتحول الوقائع البسيطة إلى معجزة، وعد مع هشاشته يظل يلمح إلى الأبدية.

لكن الجماعية لا تعني أن الذكريات الفردية غائبة، فذاكرة الفرد يصنعها تقاطع ذاكرات الدوائر الاجتماعية التي ينتمي إليها. من ناحية، يُفرض علينا جلّ ما نعرفه من ذكريات، ومن ناحية أخرى نخضعه كأفراد لعمليات انتقائية من الحفظ والمحو والتفسير وإعادة التفسير. هكذا في الذاكرة وفي النسيان، تتجذر جماعيتنا وفرديتنا، لا كنقيضين، بل عملية ينتج فيها الواحد في الآخر.

الأحلام والكوابيس فتات الذاكرة وشظايا محتواها، ما يفلت منها على السطح بوعي أو من دون وعي. وضد تيار اليومي، تمتد الذكريات قنطرة مضببة بين الواقع والخيال، بين التروما ومخاوفها التي تبقى لتطاردنا. كغيرها من الذكريات، تتيح ذكرى يناير، في عوداتها السنوية، فرصة للولوج إلى أحلامنا الجماعية وكوابيسنا، للتجول داخلها معاً بعيون مفتوحة، ونحن نبحث عن منفذ إلى المستقبل أو في انتظار جيل آخر نسلمه ما جمعناه من قصص، أو لعلها فرصة لقطيعة مع كل ما حدث، للنسيان ولو إلى حين. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها