الإثنين 2021/09/06

آخر تحديث: 08:08 (بيروت)

عن أفول القوة الأميركية

الإثنين 2021/09/06
عن أفول القوة الأميركية
increase حجم الخط decrease

في مجموعة مقالات لمؤرخين ومفكرين من مشارب مختلفة، قاربت مجلة "ذي إيكونومست" مسألة انحدار القوة الأميركية واحتمال تجاوزها من الصين في ظل تواصل تنامي اقتصادها بوتيرة أكبر من نظيره في الولايات المتحدة. في الملف، وهو أشبه بنقاش بين نخبة من المفكرين، نقاط لافتة في هذا التنافس بين أميركا والصين، وهو ينعكس حُكماً على منطقتنا بأشكال متفاوتة، اقتصادياً وسياسياً وثقافياً أيضاً. ذاك أن انحدار الولايات المتحدة كقوة عظمى في العالم، مقابل تقدم الصين، يطرح أسئلة عن شكل المنطقة وتوزع القوى والاستقرار فيها. 

في مقال المؤرخ البريطاني بول كينيدي، يسأل عمّا تغير في العالم اليوم، إذ سبق للولايات المتحدة أن صعدت بعد فترات أفول، كما حصل بعد سقوط الاتحاد السوفييتي مطلع تسعينات القرن الماضي، أو حرب العراق عام 2003. لكن كينيدي يُحدد 3 نقاط اختلاف لافتة مع الماضي، على مستوى منظومة العلاقات الدولية، والعسكر، والاقتصاد. النقطة الأولى هي أن عالمنا صار متعدد الأقطاب بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، إذ هناك قوى كبرى متعددة تلعب أدواراً متفاوتة. صحيح أن الولايات المتحدة هي الأقوى الآن، لكن قوتها لا تُترجم قدرة على فرض ارادتها في مناطق عدة من العالم. وهذا واقع جديد في عصرنا.

وثانياً، على المستوى العسكري، يُشبّه كينيدي الجيش الأميركي اليوم بقوات الإمبراطورية البائدة، إذ يتوزع على مناطق شاسعة، ويحمل أسلحة قديمة بعضها كحاملات الطائرات وحتى القوات الخاصة المدربة، قد لا يصلح للعصر المقبل حيث للطائرات بلا طيار الغلبة. كينيدي يُضخّم مسألة ترهل الأسلحة الأميركية وتراجع واشنطن أمام خصومها، سيما أنها ما زالت المنتج الأبرز للطائرات من دون طيار، وباتت هذه أساسية في حربها على الإرهاب. 

النقطة الثالثة لكينيدي أكثر أهمية وهي على ارتباط بالاقتصاد، إذ يُوفر رؤية تاريخية لهذا النمو المضطرد. ذاك أن الواقع الاقتصادي الحالي، لناحية احتمالات تجاوز حجم الاقتصاد الصيني ذلك الأميركي، غير مسبوق منذ ثمانينات القرن التاسع عشر. خلال عقد 1880-1890، تجاوز حجم الاقتصاد الأميركي اقتصاد بريطانيا. وطوال القرن العشرين، كان الاقتصاد الأميركي أكبر ضعفين أو ثلاثة أو أربعة من اقتصاد أي من الدولة العظمى الأخرى. في ستينات القرن الماضي، كان اقتصاد الصين (الناتج المحلي) 11 في المئة من الاقتصاد الأميركي، واليوم تجاوز الـ70% (75% في مقال آخر بالمجموعة ذاتها). هذه أرقام غير مسبوقة. وكينيدي يضع هذه الوقائع الاقتصادية في سياق المواجهات التي خاضتها واشنطن خلال القرن الماضي إذ "كان الاقتصاد الأميركي أكبر بعشر أضعاف من نظيره الياباني حين وقع هجوم بيرل هاربور، وثلاث أضعاف من ذلك الألماني عندما قرر الزعيم النازي أدولف هتلر شن الحرب". لأحجام الاقتصادات انعكاسات سياسية وعسكرية أيضاً، وما كان ينسحب على القرن الماضي، لم يعد قائماً اليوم. 

المؤرخ نيال فيرغسون في مقال آخر يتناول مشكلة الدين الأميركي ويقارنها بالدين البريطاني الذي ارتفع من 109% من حجم الاقتصاد (الناتج المحلي) بعد الحرب العالمية الأولى عام 1918 الى 200% عام 1934.

الدين الفيديرالي الأميركي سيصل بحسب فيرغسون الى 110% هذا العام وسيتجاوز ال200% عام 2051. يُشير هذا المؤرخ الى أن الدين الأميركي قصير الآجال، وهو بالتالي أكثر حساسية حيال تبدل الفائدة من الدين البريطاني حينها. خلاصة الأمر أن الاقتصاد الأميركي يُظهر علامات أفول مُشابهة لما حصل مع بريطانيا في نهاية حقبتها الامبراطورية.

الأكاديمي مينشين باي كتب مقالاً آخر في هذه المجموعة، يميل فيه للولايات المتحدة. يتناول باي الاقتصاد الصيني، مركزاً على الناتج المحلي للفرد. حتى لو تجاوز الاقتصاد الصيني نظيره الأميركي (الناتج المحلي الإجمالي)، سيبقى الناتج المحلي الفردي ربع ذلك الأميركي. كما أن الصين تشيخ بشكل أسرع من الولايات المتحدة نتيجة تطبيق سياسة الطفل الواحد لسنوات عديدة، وهذا سينعكس حكماً بعد سنوات على قوتها العاملة، وقدرتها على النمو والانتاج بالسرعة ذاتها. 

كما أن الولايات المتحدة لديها قدرة بحثية أكبر، وستُحافظ، بحسب باي، على تفوقها في مجال الجامعات وشركات التكنولوجيا والابتكارات الخلاقة وأيضاً في الأسواق المالية. لكن باي لا يأخذ في الاعتبار تطور مجال التعليم العالي في الصين خلال السنوات الماضية، والاستثمار الحكومي في هذا المجال (تُنفق الصين أكثر من 650 مليار دولار سنوياً على التعليم).

العائق الأكبر أمام تقدم الصين في السباق مع الولايات المتحدة هو الحزب الشيوعي الحاكم، بحسب باي، إذ يرغب في إبقاء الاقتصاد "تحت السيطرة"، والدليل هو الإجراءات المتخذة بحق شركات تكنولوجيا عملاقة مثل "علي بابا". مثل هذه الإجراءات تنعكس سلباً على قدرات النمو والابتكار وريادة الأعمال. هنا كلام أيضاً لباي عن تحالفات الولايات المتحدة، في أوروبا (بريطانيا والاتحاد الأوروبي) واليابان وكوريا الشمالية. بيد أن الصين تنقصها مثل هذه التحالفات، حتى مع دول يُفترض أنها صديقة مثل روسيا. ولو أضفنا الاقتصادات الأميركية والبريطانية والألمانية والفرنسية واليابان سوية، لظهر فارق شاسع بينها جميعاً. والصين تُواجه كذلك تحديات أمنية وصراعات في الإقليم المباشر، مع اليابان والهند، وهي ليست في مواجهة أحادية مع الولايات المتحدة فحسب.

المهم أننا أمام عالم مختلف يتبلور سريعاً أمامنا. لن يكون بإمكان الولايات المتحدة لعب دور الشرطي وفرض ارادتها بشكل أحادي، لكن ذلك لا يعني تتويجاً للصين على أنقاض الأولى، بل تحولاً بطيئاً وفراغاً لن يخلو التنافس عليه من الدماء. 

ومنطقتنا هنا ساحة متقدمة للنزاع عليها أن تُفكر ملياً بما ينتظرها. هذا إن كان في صفوف قادتها من يُفكر أبعد من الحفاظ على مصالحه وسلطته ونفوذه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها